حديث إذا سألت فاسأل الله يرسل
جاء في وصية رسول الله ﷺ لابن عباس رضي الله عنهما :- وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ....الخ الحديث ( أخرجه الترمذي )
* أقوال العارفين في ذلك:-
* قال البيطار:-
اعلم رحمك الله تعالى أن لأهل الله تعالى في الخلق مشهدين فمنهم من يشهد بأن العالم ليس إلا تجلي الحق جلا جلاله في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه
وأنه تعالى يتنوع التصور بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها
فمن شهد هذا المشهد أطلق على الحق أسماء الخلق ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاهُ إِلَى اللَّهِ) والآية تشير إلى ذلك
فإنا نرى أنفسنا ظاهراً أننا نفتقر إلى ملبوس ومأكول ومشروب ومركوب مع أن الله لم يجعلنا مفتقرين إلا إليه بوجه الحصر لأنه أتى في الآية بجملة معرفة الطرفين تفيد الحصر
أي أنتم الفقراء إلى الله لا إلى سواه فزعمكم أن افتقاركم لما تسمونه مأكولاً ومشروباً ومركوباً وغير ذلك باطل بل المسمى بهذه الأسماء التي تفتقرون إلى مدلولاتها هو الله لا سواه
فكل ما يفتقر إليه في الوجود فاسمه منطبق على الله ولذا قال حضرة النبي ﷺ: ( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله )
أي اعتقد أن سؤالك لكل مسؤول هو سؤال الله واستعانتك بكل مستعان هو عين استعانتك بالله وإذا كنت كذلك فأنت من أهل التوحيد الخارجين عن الأكثر
( ولذلك قال الإمام علي الجمل :-
شغلك مع الله هو شغلك مع عباد الله وشغلك مع عباد الله هو شغلك مع الله من غير زيادة ولا نقصان لأنه لا موجود في الحقيقة إلا الله وحده.
مهما تذللت لمولاك أو للمخلوق إذا شاهدت فيه مولاك نفسك أو جنسك استجيب لك في الحين
فشغلك مع الله هو شغلك مع عباد الله من غير زيادة ولا نقصان لأنه لا موجود في الحقيقة إلا الله ولا في الوجود إلا الله
فإذا أردت أن تكون صادقاً مع الله فكن صادقاً مع عباد الله فذلك هو الصدق وإذا أردت أن تكون محسناً لله فكن محسناً لعباد الله فذلك هو إحسانك لله عزّ وجل وهكذا
{ سلسلة أعيان المغرب الشيخ علي الجمل.}
وقال يحي بن الجلاء:-
من رأى الأفعال كلها من الله تعالى ورأى نفسه محلا لجريان ما قدر له ورأى فضل ربه عليه في جميع أحواله فهو موحد لا يرى إلا واحداً.
{. الإحكام لزكريا الأنصاري ج١ ص ١٥٩}
.
وقال النفري في المخاطبات :-
إلهي أنت خـالق الأشياء ومدبرهـا وعالم الأشياء ومـعلمها وعارف الأشياء ومـعرفها إليك ترجع ومنك تبدو وبقوتك تبيد وبإذنك تقوم وإليك تنقلب وبك تستقر . ( المواقف للنفري )
ثم قال البيطار :-
قوله سبحانه وتعالى ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم تُشْرِكُونَ ) فمن رأى الله عين كل شيء فهو من القليل الموحدين لا من الأكثر المشركين ( مع الفرق بين حق وخلق )
وصاحب هذا المشهد يقول : إن العالم عين الوجود الإلهي لأن الحق هو الظاهر ولا يظهر إلا بصور العالم فهو المسمى بالعالم
ومن هنا وصف الحق نفسه بالجوع والظمأ والمرض والهرولة وأنه سمع العبد وبصره ويده ورجله إلى غير ذلك مما ورد به الشرع المطهر ( مع التشبيه والتنزيه في ذات الوقت )
( فتح الرحمن الرحيم للبيطار ص ٢٩٤ )
وقال الإمام مصطفى بالي ذادة :-
معنى سريان الحق تعالى في العبد وجوده أثر ذاته وصفاته في وجود العبد مع كون الحق منزها بجميع صفاته عن هذا الكون لأن الاتحاد ( والحلول) هو من كل الوجوه باطل
فلما نزل الحق نفسه منزلة العبد فأثبت لنفسه ما هو من خواص عبده فقال : مرضت وجعت الخ
علمنا أن المريض والجائع ليس صورة العبد بل الروح المتصف بصفات الله تعالى الظاهر في صورة العبد بالهيكل المحسوس المشاهد
فما أثبت صفات المحدثات في الحقيقة لنفسه بل أثبت لأثر نفسه تنبيها على أنه واجب التعظيم .
فإنه ظل الله تعالى والله سبحانه وتعالى أعظم ظله ( وهو العبد) كما عظم نفسه فما قال إلا تعظيمه للعباد
فمن أعاد المريض فقد أعاد الحق ومن أشبعه فقد أشبع الحق على طريق من أكرم عالما فقد أكرمني وهذا مخصوص بالإنسان دون غيره .
لأن كمال ظهور الحق فيه لا في غيره لذلك لا يثبت لنفسه صفات سائر المحدثات.
ومعنی سريان العبد في الحق إحاطته جميع ما اتصفت به ذات الحق بحسب استعداده .
( شرح الفصوص لمصطفي بالي ذادة )
* وبناءا علي ما تم توضيحه سابقآ يظهر لك جلياً
المعني المراد من الحديث بالاستعانة
وفي ذلك قال الإمام عبد القادر عيسي:-
روي عن الإمام أحمد رضي الله عنه أنه سمع إنسانًا يقول في دعائه:
اللهم لا تجعل لي حاجة إلى مخلوق
فقال الإمام أحمد رضي اللّه عنه هذا الرجل يدعو على نفسه بالموت وهو لا يشعر وحيث كانت الحاجة لا بد منها لكل حي إلى المخلوقين
أرشد الإمام إلى دواء ذلك وهو أن يشهد عند حاجته إلى المخلوق وجه الحق سبحانه وتعالى في ذلك المخلوق فإن للحق - تعالى - في كل مخلوق وجها خاصًا
فبذلك الوجه ينفع المخلوق ويضر فمن احتاج إلى المخلوقين حالة كونه يشهدهم بهذا الشهود فما احتاج إلا إلى الله تعالى ولا افتقر إلا إليه وهو أكمل ممن استغنى عن المخلوقين مع شهودهم
( المواقف الروحية للجزائري رقم ٣٧٢ )
وقال بهاء الدين البيطار :-
( سؤلنا الوسيلة من النبي ﷺ في الآخرة ووسائل الدنيا من خلق وأسباب) هل ذلك طلب الحاجة من غيره عز وجل كلا بل هو من قبيل تنزلات الحق تعالى في مثل قوله جل جلاله
( مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)
وقوله { إن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ ﴾
مع غني الحق عز وجل المطلق وعزته المنيعة الحمى، وقدرته التي لا يعجزها شيء
( فتح الرحمن الرحيم لةلبيطار )
** الوسيلة من المدد الإلهي:-
ثم إِن الله تعالى بين في كتابه العزيز أنه هو سبحانه وتعالى مصدر الإِمداد حين قال جل جلاله: {كُـلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك }
وقد جهل المعترضون علي السادة الصوفية ( في قضية المدد والتوسل والاستعانة ) مع أنهم أهل التوحيد الخالص الذين يأخـذون بيـد
مريديهم ليذيقوهم حلاوة الإِيمان وصفاء اليقين وتخليصهم من شوائب الشرك في جميـع صـوره
وأنواعه.
ولتوضيح المراد من كلمة [مدد] نقول: لابد للمؤمن في جميع أحواله أن تكون له نظرتان:
١- نظرية توحيدية الله تعالى :-
بأنه وحده مسبب الأسباب والفاعل المطلق في هذا الكـون، المنفـرد
بالإِيجاد والإِمداد، ولا يجوز للعبد أن يشرك معه أحداً من خلقه مهما علا قدره أو ارتفعت رتبته من نبي
أو ولي.
٢- ونظرة للأسباب :-
التي أثبتها الله تعالى تعالى بحكمته حيث جعل لكل شيء سبباً فالمؤمن يتخذ الأسباب ولكنه لا يعتمد عليها ولا يعتقد بأنها تؤثر بذاتها دون مؤثر
فإِذا نظـرت إِلى
السبب واعتقدت بتأثيره المستقل عن الله تعالى فقد أشركت لأنك جعلت الإِله الواحد آلهة متعـددين.
وإِذا
نظرت للمسبب وأهملت اتخاذ الأسباب فقد خالفت سنة الله تعالى ( في كونه ) الذي جعل لكل شيء سبباً.
والكمال هـو
النظر بالعينين معاً، فنشهد المسبب ولا نهمل السبب.
ولتوضيح هذه الفكرة :-
إِن الله تعالى وحده هو خالق البشر ومع ذلك فقد جعل لخلقهم سبباً عاديـاً وهـو ظهور
الجنين في رحم الأم بسبب الزواج وخروجه منه في أحسن تقويم.
وكذلك فإِن الله تعالى هو وحده المميت ولكنه جعل للإماتة سبباً هو ملك الموت
فإِذا لاحظنا
المسبب قلنا: { اللهُ يتوفَّى الأنفُس..]
وإِذا قلنا: إِن فلاناً قد توفاه ملك الموت لا نكون قد أشركنا مع الله إِلهاً آخـر لأننـا لاحظنـا
السبب
كما بينه الله تعالى في قوله: {قُلْ يتوفاكُم ملَك الموتِ الذي وكِّلَ بِكُم}
وكذلك فإِن االله تعالى هو الرزاق، ولكنه جعل للرزق أسباباً عادية كالتجارة والزراعة
فـإِذا
لاحظنا المسبب في معرض التوحيد أدركنا قوله تعالى: {إنَّ الله هـو الـرزاق ذو القـوةِ المـتِين
وإِذا لاحظنا السبب وقلنا: إِن فلاناً يرزق من كسبه،ِ لا نكون بذلك قد أشركنا
فرسول الله ﷺ يقول: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمـل يـده"
( البخاري)
وقد جمع الرسول ﷺ بين النظرتين توضيحاً للأمر وبياناً للكمـال في قولـه :-
"وإِنما أنا قاسم والله يعطي" [أخرجه البخاري]
وكذلك الأمر بالنسبة للإِنعام :-
ففي معرض الجمع بين ملاحظة المسبب والسـبب قولـه
تعالى: {وإذْ تقولُ للذي أَنعم اللهُ عليهِ وأنعمت عليه...}
فليس الرسول ﷺ شريكاً لله تعالى في عطائه وإِنما سيقت النعم لزيد بن حارثة رضي الله عنه بسبب النبي ﷺ فقد أسلم على يديه وأُعتِق بفضله وتزوج باختياره.
وكذلك بالنسبة للاستعانة إِذا نظرنا للمسبب :- قلنا "إِذا استعنت فاستعن بـاالله"
وإِذا نظرنـا
للسبب قلنا {وتعاونوا على البر والتقوى} والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" ( أخرجه مسلم )
فإِذا قال المؤمن لأخيه أَعِني على حمل هذا المتاع لا يكون مشركاً مع الله تعالى أحـداً أو
مستعيناً بغير الله لأن المؤمن ينظر بعينين فيرى المسبب والسبب وكل من يتهمه بالشرك فهو ضال
مضل.
* وهكذا الأمر بالنسبة للهداية :-
فإِذا نظرنا للمسبب :-
رأينا أن الهادي هو االله وحده لهذا قـال الله تعالى لرسوله ﷺ {. إنك لا تهدِي من أحببت ] {القصـص].
وإِذا لاحظنـا السبب :-
نرى قول الله تعالى لرسوله ﷺ: {وإنك لَتهـدي إلى صـراطٍ مسـتقيمٍ}
أي تكون سبباً في هداية من أراد الله تعالى هدايته.
والعلماء العارفون المرشدون هم ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم في هداية الخلق ودلالتهم على
الله تعالى
فمن طلب العبد المدد من الشيخ أو معلم فليس معناه انك قد اشركت بالله تعالى لأنك تلاحظ هنا السبب كما أوضحناه سابقاً مع اعتقـادك أن
الهادي والمُمِد هو الله تعالى وحده
وأن الشيخ ( أو المعلم أن الولي ) ليس إِلا سبباً أقامه الله الله تعالى لهداية خلقه وإِمدادهم بالنفحـات
القلبية والتوجيهات الشرعية
والرسول ﷺ هو البحر الزاخر الذي يستمد منـه
هؤلاء الشيوخ ( والعلماء والأولياء وكلهم ورثة علي قدر مرتبتهم وقربهم وصفاء حالهم وأحوالهم) وعنه يصدرون.
فكل عاقل لا يسيء الظن بأحد من أولياء االله عز وجل ( ولا يطوع الحديث علي مراده وفهمه السقيم ) ويجب عليك أن تؤول أقوالهم وأفعالهم مادمت لم تلحق بدرجتهم ولا يعجز عن ذلك إِلا قليل التوفيق)
[ اليواقيت والجواهر للشعراني ج.١ ].
* المراجع :-
* المواقف والمخاطبات للنفري
* سلسلة أعيان المغرب الشيخ علي الجمل
* إحكام الدلالة على الرسالة القشيرية
* فتح الرحمن الرحيم بمقالة الجيلي و ابن عربي
لشيخ الإسلام بهاء الدين البيطار دار إحياء
التراث العربي بيروت - لبنان
* شرح فصوص الحكم لمصطفي بالي ذادة فص
كلمة إبراهيمية
* حقائق عن التصوف لعبد القادر عيسي دار المقطم
* اليواقيت والجواهر للشعراني
.
المعرفة الإلهية و العقيدة