حديث النبيﷺ عن حقيقة الإحسان
المعرفة الإلهية و العقيدة

روي عن حضرة النبيﷺ

في حديث سؤال سيدنا جبريل له ما الاسلام ...إلي أن قال له ما الإحْسانُ فقال النبيﷺ

أن تعبد الله كَأنَّكَ تراه فإن لم تكن تراه فإنَّه يَراكَ.

رواه مسلم والبخاري والنسائي بألفاظ متقاربة .

  * البيان*

العبودية لله كأنك تراه ليس في العبادة فقط بل في كل أحوالك فإن علمت باليقين او شاهدت ذوقا بأنه الله تعالى يراك ومطلع عليك فإن حركاتك وسكناتك سوف تكون بحساب لأنك تخشي أن تفعل ما لا يرضيه فتكون سئ الأدب في حضرته

  * اقوال العارفين في ذلك*

الإشارة الأولي:-

قال ابي العباس التيجاني:-

[[ المراقبة عند العارفين هي علم القلب باطلاع الرب عليه في كل لحظة وبدوامها تقع المشاهدة . ]]

{ روض المحب الفاني }

الإشارة الثانية :-

أن من معاني أن تعبد ربك كأنك تراه ؛-

اي تراه في كل شئ تري أفعاله في افعال الخلق أن اعطوك فهو المعطي وإن حرموك فكذلك وإن أساؤوا اليك فهو ربك الفاعل سلطهم عليك تأديبا لك وان أحسنوا معك فهو المحسن لك

ولا تتغير فيك صفة من غضب أو غيره فتعامل المحسن والمسييء والذي يمدحك ومن يذم فيك بمعاملة واحدة. وهذا هو عين المعرفة الإلهية التي تكلم فيها العارفون بأن تشهد ربك كأنك تراه في كل شيء )

[[ وقال محمد البكري الشهير بالسمان:-

يا ولدي إني أوصيك بتقوى الله والمحافظة على ذكر الله والصلاة على رسول الله وأن لا تشهد حيا ولا معطياً ولا مانعاً ولا ضاراً ولا نافعاً ولا فعلا موجوداً في الوجود إلا الله واجعل خدك أرضاً يطؤه البر والفاجر .

فيقوم ظاهرك بظاهر الشريعة وباطنك يشهد أنه لا موجود ولا حي ولا فاعل في الوجود إلا الله ومن عبد الله بهذا الوجه فقد جمع بين الشريعة والحقيقة

ومن المواقف للإمام البكري التي تبين معني شهود الله في خلقه من حيث توحيد الفعل لله وحده :-

أنه دخل عليه مرة شخص بين العشاءين وشتمه شتماً عنيفاً وقال له يا فاسق يا ساحر وتكلم بكلام والشيخ منصت لم يرد عليه

فلما فرغ الرجل من شتم الإمام قام وخرج من عنده وما سمعناه ردّ عليه كلمة واحدة فلما سمع بذلك ولده قال له

كيف سكتم عنه لم لا أخبرتمونا فنشتكيه إلى الحكام فقال له يا ولدي

أما سمعت قوله تعالى : ( قالوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [ سورة فصلت ]

والله ما تكلم هو علينا بل إنما الله أجرى ذلك على لسانه ليذكرنا بعيوب أنفسنا فسكت حين سمع جواب والده .

فمن رقى مشهده إلى شهود صدور القول من الله تعالى لا تستطرقه العداوة ( للناس ) بل يرى ذلك تنبيهاً له من الله تعالى على لسان هذا العبد

فيحبه لكونه صار واسطة له في التنبيه وفي حصول الأجر له على صبره عليه الذي بسببه رفعت له الدرجات

وفي فعلك ذلك ( بأن تشهد الله في خلقه من فعل وقول ) فهذا دليل على كمال متابعتك للنبي ﷺ فإن قريشاً كانت تنسب النبي ﷺ للسحر والكذب وآذوه أشد الايذاء وأكثر من ذلك ومع ذلك كان يدعو لهم ويقول « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » ]]

{قطف أزهار المواهب الربانية للبكري ) .

( فقول حضرة النبيﷺ كأنك تراه ليس في الصلاة والصوم والزكاة والحج وأعمال الشريعة من صلة رحم وصدقة الخ بل في معاملتك ربك من خلال خلقه من قول وفعل

واذا تأدبت مع ربك بتلك الصورة وشهدت فعل الخلق فعله وقول الخلق قوله من عطاء وحرمان عز وذل مدح وذم هجر وقرب فقد عرفت ربك وصرت من أولياء الله الصالحين المقربين له .

(وفي بيان مشاهدة ربك في كل شئ ليس بمجرد العلم أنه موجود بل تشهده ببصيرتك وقلبك ) :-

[[ قال ابن عباد النفري في المخاطبات:-

يا عبـد أنا الظاهر ولا تراني العيون وأنـا الباطن ولا تطوف بي الظنون يا عـبد أنا الدائم ولا تخبر عنى الآباد وأنا الـواحد ولا تشبهني الأعـداد .

يا عبد قل لا إله إلا الله ثم استقم فلا إله إلا أنا ولا وجود حق إلا لى وكل ما سوای منی من صنع يدى ومن نفخة روحي يا عبد كل شيء لي فلا تنازعني ما لي .

يا عبد خلقتك على صورتی واحـدا فردا سميعا بصيرا مريدا متكلما وجعلتك قابلاً لتجليات أسمائی ومحلا لعنايتي أنت منظری لا ستور مسدلة بيني وبينك

أنت جليسي لا حدود بيني وبينك يا عبد ليس بيني وبينك بين أنا أقرب إليك من نفسك أنا أقرب إليك من نطقك فانظر إلى فإني أحب أن أنظر إليك ]]

{ المواقف والمخاطبات }

تنبيه :-

[[ قال الدكتور مصطفى محمود لما استشفه من اقوال العارف بالله النفري ( بتصرف ) :-

لا وجود لشيء إلا له هو وأنه هو الموجود وأن كل ما ترى هي تجلياته وأفعاله وكل ما نستشعره من عالم الخفاء والغيب هي ذاته وهناك فرق بين الظاهر وبين المظاهر .

فالظاهر يظهر في المظاهر دون أن تحصره أو تـحـتـويه فهو يتجلى فيها بصفاته وأسمائه التي لا حصر لها .

أما المظاهر فهي وحـدات محدودة هي شتات مـن أجزاء براويز مخـتلفة وإطارات متباينة يتجلى من خلفها حكـم الأسماء والصفات الإلهية

ولهذا نقول في ديننا :

إن الله هو الظاهر والباطن الظاهر فعله والباطن ذاته ولا نقول إن الله هو مجموع ما يبدو من مظاهر فتحصره في مجموع الصور المادية للكون وهذا مستحيل .

مستحيل أن يكون الله قابلا للحصر في مجال الرؤية البصرية مستحيل أن يقبل العد والتجزئة وإذا سمعت من يتكلم عن رؤية الله من الصوفية المسلمين فإنه لا يقصد رؤية العين وإنما رؤية العقل والبصيرة والإحساس الإحساس بالحضرة الإلهية بالمكابدة كما تكابد الشوق والحب ]]

( رأيت الله لمصطفى محمود )

[[ وقال النفري في المخاطبات أيضا :-

يا عبد : إذا رأيتني في النعيم لم تغب عني في سواه وإذا لم ترني في النعيم غلب عليك النعيم .

ولن ترني في نعيم أو بلاء حتى تراه فعلى وحدى . ولن تراه فعلى وحدى حتى لا ترى شيئا من أجل شيء وحتى تتخلص من وهم الأسباب

( أي إن الأسباب لا تضر ولا تنفع لكنها تنفع وتضر بإذنه تعالي فليس الدواء هو الشافي وليس المرض وليس السعي هو سبب الرزق هو سبب الموت ...الخ

فخذ بحكمته أي بالاسباب لأنها سنته في خلقه وليكن قلبك علي يقين أن تلك الحكمة قائمة ومنفعلة بإذنه لا بوجود الأسباب من عدمها والله اعلم ]].

( المواقف والمخاطبات)

[[ وقال عبد القادر الجزائري:-

في قوله تعالي ( إياك نعبد واياك نستعين) أمر العبد المؤمن بسؤال ربه أن يجعله مشاهدا له في كل مظهر يحصل منه له تذلله وخضوعه وانقياده للظاهر تذلل وخضوع وانقياد

بحيث تكون عبادتك بمعنى تذللك وخضوعك وانقيادك للظاهر وهو المولي عز وجل بذلك المظهر الخلقي أي مظهر كان .

والحاصل أننا أمرنا بطلب الخلاص من الشرك وإفراد الخضوع والانقياد لله سبحانه وتعالى ولا يكون ذلك إلا برؤية وجه الحق في كل شيء .

كما قال سبحانه وتعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين )

بمعني توحيد الطاعة وتخليص الانقياد ولا يكون إلا بهذا الشهود فإنه لا بد لكل مخلوق من الخضوع والانقياد لمخلوق آخر فعلمنا ربنا سبحانه و تعالى كيفية الخلاص من الشرك .

وبمثل ما تقدم- أمرنا في الاستعانة فتشهد الحق سبحانه وتعالى في كل شيء نستعين به في الأسباب والوسائط .

كقوله تعالي ؛- { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ (سورة البقرة ) }

أو نستعين بغيرها من إنس وجن وملك وحيوان وجماد إذ لا بد لكل إنسان من خضوع لمن تكون حاجته عنده من المخلوقات ومن الاستعانة بالمخلوقات.

فإذا رحمك الله سبحانه و تعالى بمعرفته وشهود وجهه في كل شيء تخلصت من الشرك فأنت بذلك لا تعبد إلا الله عزّ وجل وحده ولا تستعين إلا به . (وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء )

{ المواقف الروحية }

[[ وقال العارف بالله علي الجمل:-

شغلك مع الله هو شغلك مع عباد الله وشغلك مع عباد الله هو شغلك مع الله من غير زيادة ولا نقصان لأنه لا موجود في الحقيقة إلا الله وحده.

فمهما تذللت لمولاك أو للمخلوق إذا شاهدت فيه مولاك نفسك أو جنسك استجيب لك في الحين

فإذا أردت أن تكون عبدا عبد لله حقاً فكن عبداً لعبيد الله حقاً تجد نفسك عبداً الله حقاً .

وإذا أردت أن تكون متواضعاً لله فكن متواضعاً لعباد الله فذلك التواضع لله .

وإذا أردت أن تكون محسناً لله فكن محسناً لعباد الله فذلك هو إحسانك لله

وإذا أردت أن تعظم الله فعظم عباد الله فذلك هو تعظيمك لله هذا لعباد الله خصوصاً وعموماً .

وإذا تكبرت على عباد الله فأنت متكبر على الله

وإذا أسأت الأدب على عباد الله فقد أسأت الأدب مع الله وإذا غضبت على عباد الله فأنت غاضب على الله

وإذا بخلت على عباد الله فأنت بخيل على الله وإذا تعززت على عباد الله فقد تعززت على الله .

حاصل ما سبق :

شغلك مع الله هو شغلك مع عباد الله ( لأنك تشاهد ربك بفعله فيهم وبهم ) من غير زيادة ولا نقصان

لأنه لا موجود في الحقيقة إلا الله ولا في الوجود إلا الله والآيات من كتاب الله والأحاديث من كلام النبي ﷺ التي تصدق هذا المعنى كثيرة ]]

{ سلسلة أعيان }

[[ وقال يحي بن الجلاء:-

من رأى الأفعال كلها من الله تعالى ورأى نفسه محلا لجريان ما قدر له ورأى فضل ربه عليه في جميع أحواله فهو موحد لا يرى إلا واحداً ]]

{إحكام الدلالة }

الحاصل مما سبق :-

( أنك برؤيتك لوجود الله تعالي من وراء حجاب الكون كله من خلق ومخلوقات وإن الفعل فعله وأنه من وراء الفعل ووراء الصورة تصل بذلك الي ما يسمي بحالة الاستغراق في الله تعالي ( الفناء )

وينطبق عليك قوله عز وجل في الحديث بي يسمع ولي يبصر الخ الحديث ولقد وضح هذه الحالة الرومي رضي الله عنه بضرب مثال يظهر لك معني نسيان نفسك ووجود ربك )

فقال جلال الدين الرومي:-

عندما يحصل لعضو استغراق تام تستغرق فيه الأعضاء كلها ولهذا فإنه عندما تطير الذبابة إلى أعلى تحرك جناحيها ورأسها وأجزاءها جميعا ( وهي إرادة الفعل ووجود ذاتك )

أما عندما تغرق الذبابة في العسل فإن أجزاءها جميعا تعدو شيئا واحدا ولا يبدومنها أي حركة

( فالحركة حركة العسل لا الذبابة وكذلك أنت تتحرك وتفعل وتعمل بربك ولا تري في افعال الخلق وأقوالهم وصورتهم سوي ربك ) .

كما قال أحد العارفين المستغرقين في وجود الله عز وجل فقال " أنا الحق " ، يظن بعض الناس أنه ادعاء عظيماً منه ويعتبرونه كفرا .

لكن قوله ( أنا الحق ) على الحقيقة تواضع عظيم لأن من يقول : " أنا عبد الحق يثبت وجودين اثنين أحدهما نفسه والآخر هو الله

أما من يقول أنا الحق فقد نفى نفسه وأسلمها للريح يقول : أنا الحق يعني " أنا عدم " هو الكل لا وجود إلا الله أنا بكليتي عدم أنا لست شيئاً .]]

{فيه ما فيه للرومي}

والله سبحانه وتعالى أعلي وأعلم وأحكم . وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد. وعلى اله وصحبه اجمعين .

* المراجع * 
  • صحيح مسلم والبخاري والنسائي
  • روض المحب الفاني ص ٩٢ بتصرف يسير
  • قطف أزهار المواهب الربانية محمد البكري الشهير بالسمان ( بتصرف )
  • المواقف والمخاطبات للنفري
  • المواقف الروحية لعبد القادر الجزائري الموقف رقم ٧٩ بتصرف يسير جدا
  • سلسلة أعيان المغرب الشيخ علي الجمل
  • إحكام الدلالة على الرسالة القشيرية لشيخ الاسلام زكريا الانصاري ج١ ص ١٥٩
  • فيه ما فيه لجلال الدين الرومي ص ٦٧ ، ٧٧-٧٩ بتصرف يسير جدا
  • رأيت الله لمصطفى محمود ( قبسات من اقوال النفري)

.