* عن سيدنا ابي بن كَعْب رضي الله عنه قَالَ قَالَ ( سيدنا ) مُوسَى ( علي نبينا وعَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) : -
يَا رب أقريب أنت فأناجيك اَوْ بعيد فأناديك فَقيل لَهُ يا مُوسَى أنا جليس من يذكرني
(رواه البيهقي في شعب الإيمان )
أقوال العارفين في ذلك:-
** الوجه الأول :-
قال العارف بالله الحلاج : إن الله تعالى لا تحيط به القلوب ولا تدركه الأبصار ولا تمسكه الأماكن ولا تحويه الجهات
ولا يتصور في الأوهام ولا يستطيع الفكر أن يتخيله ولا يدخل تحت كيف ولا يُنعت بالشرح والوصف ومع ذلك فإنك لا تتحرك ولا تسكن ولا تتنفس إلا وهو معك فانظر كيف تعيش
* وقال العارف بالله محي الدين ابن عربي:-
أعلم ان مجالسة الله تعالى ومراقبته ودوام ذكره جل جلاله لا بد أن تثمر هذه المجالسة من فوائد المنح وعوائد العطايا ما لا يخفى
ولابد أن تصيبك منها نفحات لا تشقى بعدها أبداً لأنك تجالس أكرم الأكرمين وخير المحسنين.
وعلى قدر ذكر الذاكر يكون الحق دائمًا يجلس معه فكل ذاكر لا يزداد علماً في ذكره بمذكوره جل جلاله فليس بذاكر وإن ذكر بلسانه
لأن الذاكر هو الذي يعمه الذكر فذلك جليس الحق فلابد من حصول الفائدة
ومن اللازم أن تقصد بذكر الله تعالى تلاوة القرآن فتذكر الله بكل صيغة تذكره بها من حيث إنها كلام الله تعالى في القرآن العظيم
وليس بطريقة الغفلة عن استحضار ذلك فتفوتك الثمرة العظمى بالغفلة عن ذكر الله بكلامه
فهناك فرق بين من يذكر الله تعالى بنفسه ومن يذكره به جل جلاله والفرق إنما هو بالنية فقط والأعمال بالنيات
فرق شاسع بين الذاكرة القاصد تلاوة القرآن بألفاظ الذكر وبين من لا يقصد ذلك
( هل يستوى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْباب )
ومن كان الحق جليسه فهو أنيسه فلابد أن ينال من مكارم الأخلاق على قدر مدة مجالسته وإذا كان الحق يرحم من جلس إلى قوم ليس منهم كما في الحديث القدسي لأنهم القوم لا يشقى جليسهم
فكيف يشقى من كان الحق جليسه ولا بد أن يكون الله مع الذاكرين بمعية اختصاص وإلا لم يكن بينهم وبين غيرهم فرقان
فإنه سبحانه وتعالى معهم حيثما كانوا وأينما كانوا وما ثم إلا مزيد علم به يظهر الفضل. ( الفتوحات المكية لابن عربي)
* وقال العارف بالله مؤيد الدين الجندي:-
إذا داومت على ذكر الله بلسانك مع نفي الخواطر ومراقبة الله بحيث يكون لسانك متلفّظاً بكلمة الذكر وقلبك يكون حاضراً مع المذكور جل جلاله
وعقلك متعقلاً لمعنى الذكر وفي قوة خيالك تخيل صورة الذكر على تُؤَدَةٍ ووقار وخضوع وخشوع فإنه يوشك أن تتحد ( يفني الحادث وهو أنت ويبقي الباقي جل جلاله)
هذا إذ كانت الأعضاء والجوارح مع الذكر الذي تداوم عليه، ويفنى الذاكر عن كل شيء وعن الذكر بالمذكور وفي المذكور
فيحييك الله حياة طيبة نورية يرزقك فيها العيش مع الله وبالله وفي الله مشاهداً في كل ما تشهد ربك عز وجل
وهذا حال أهل الكمال المقربين الذين هم خواص الله رزقنا الله وإياكم لزوم هذا الذكر والدؤوب عليه إنه قدير .
( شرح الجندي علي فصوص الحكم ص ٤٧٧)
.
** الوجه الثاني:-
اعلم أن المولي عز وجل ليس بجسم أو بمكان أو يكون له حيز وحدود سبحان الله عما يصفون فمجالسة الحق سبحانه وتعالى لك بمعيته ورحمته وتجلياته
فالمؤانسة هنا منك بتجلياته وصفاته عليك وليس بذاته فليست هناك مشاكلة او مناسبة بين العبد وربه حتي يجالسه بذاته تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا
فالمولي سبحانه وتعالى منزه عن الوصف بالجسم أو العرض أو الزمان والمكان حتي لا تضل كما ضل الكثير بجهلهم عن صفات المولي جل جلاله ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون)
وأنه سبحانه وتعالى كما قال (فأينما تولوا فثم وجه الله) وقال تعالي (وهو معكم أينما كنتم) وقال تعالي لسيدنا موسي( إني معكما أسمع وأري)
فهو في كل وقت وزمان معك لا يحويه مكان ولا زمان وكما قال عبد الوهاب الشعراني : الأنس بالله لا يصح لأحد للجهل بكنه ( حقيقة ) الذات الإلهية
وقال العارف بالله علي وفا الشاذلي:
لا يصح الأنس بالله تعالى لأحد من المحققين وما أنس إلا بما منه عز وجل من التقريبات وليس بذاته تعالى.
وقال العارف بالله محى الدين بن عربي :-
إن الذات المقدسة لا تدخل تحت إحاطة علم ولا إدراك. فغاية علم الأولياء بالله تعالى أن يصلوا إلى علم حصول التجليات لا غير ذلك
أما كيفية تجليه فلا يعلمه أحد لأنه من خصائص علم الحق تعالى بنفسه .
وقال الله سبحانه وتعالى ( الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) فالمصلي يناجي ربه تعالى والمناجاة ذكر والحق سبحانه وتعالى جليس من ذكره
والدوام على مناجاته تعالى هو أن تكون في جميع أحوالك وتصرفاتك مع الله تعالى كما أنت في صلاتك تناجيه في كل عين
( رسائل ابن عربي ج٤ ص ٢٢٠ بتصرف )
** الوجه الثالث :-
قيل لذي النون المصري: ما الأنس بالله عز وجل؟ قال: هو أن تستوحش من الدنيا ومن الخلق إلا من أهل ولايته ( أوليائه الصالحين ) فإن الأنس بأهل ولايته هو الأنس بالله عز وجل.
ولا يكون الأنس بالله تعالى إلا ومعه التعظيم لأنَّ كُلِّ مَن استانست به سقط تعظيمه عن قلبك إلا الله عز وجل فكلما ازداد الأنس بالله عز وجل به كلما ازدادت منه الهيبة والتعظيم.
** الوجه الرابع:-
* علامات الأنس بالله عز وجل:
١- إذا رأيته يوحشك من خلقه فهو يؤنسك بنفسه ودوام الجلوس فى الخلوات وطول الوحشة من مخالطة الناس ودوام العزلة والوحدة و
٢- التلذذ بالذكر والتلاوة لكتابه والتلذذ بالمجاهدات والتمسك بالطاعات
روي في الخبر. : أوحى الله تعالى إلى آدم عليه السلام : يَا آدَمُ مَنْ أَحب حبيباً صدق قوله ومن أنس بحبيبه رضى بفعله ومن اشتاق إليه جد في مسيره ..
فإذا أكرم الله عبداً الهمه ذكره وألزمه بابه وآنسه به يصرف إليه بالبر والفوائد ويصرف عنك أشغال الدنيا والبلايا
فتصير من خواص الله تعالى وأحبائه فطوبى لمثل ذلك العبد حيا وميتا
٣- ومن علامات الأنس بالله تعالى ضيق الصدر عن معاشرة الخلق والتبرم بهم وداوم تلذذك بعذوبة ذكر الله تعالى وإن خالطت الخلق فأنت بجسدك معهم وقلبك معه
كمنفرد فى جماعة ومجتمع في خلوة وغريب في حضر ومخالط الخلق بالبدن منفرد القلب بالحق عز وجل ومستغرق بعذوبة الذكر
** الوجه الخامس:-
* ثمرة مجالسة الحق عز وجل :-
قال العارف بالله عبد الفتاح القاضى :
الذكر نوعان : . الأول - ذكر يتولد منه الخوف والخشية :- وهو ذكر من يذكر الله مع نفسه ويرى أن ذكر الله له ما كان إلا بذكره لله تعالى ويعلم أنه بذكره له يصل إلى ذكر الله له
الثاني - ذكر يتولد منه الشوق والمحبة :- وهو الذاكر الذى يتذكر ذكر الله له في الأزل حيث لم يكن موجوداً إلى أن يصير فى الدنيا مفقوداً ثم إلى الأبد
فذكر الله لك سابقاً أزلياً خالداً أبدياً . وذكرك لله مكدراً بالشهوات ممزوجاً بالغفلات.
وفرق كبير بين النوع الأول الذي يدخل على الله برؤية ذكره وبين النوع الثاني الذي يدخل على الله برؤية فضله ومنته
.فلتعلم أيها الذاكر من تذكره عز وجل وأنه عز وجل له الفضل عليك بالدخول إلى حضرته ودخولك سرادقات الأنس بالله تعالى
وأن ذكر مولاك لك أسبق من ذكرك فافهم من الذاكر حقاً . وأن الاضافة من ربك لك بأنك تذكره فهذا تشريف يستوجب منك ما لا تقدر علي الوفاء به إلا بتوفيقه لك سبحانه وتعالى .
فهو الذي ينعم عليك ويوفقك ثم يشكرك على ما فعلت من واجب تلك النعماء ثم يثنى عليك بالاعطاء نعم العبد إنه أواب ، فمن الذي جعلك أواباً ؟
والذكر يكون أولا باللسان فإذا داوم عليه صاحبه انخرق له القلب وسرى نور الذكر إلى بقية الجوارح واستغرق العبد كله فى الذكر فتحولت بشريته ووجوده إلى حال آخر
كما روى عن العارف بالله أحمد الرفاعي رضى الله عنه أنه كان إذا ذكر الله تعالى واستغرق في الذكر تحولت بشريته وصار كالماء
ولا يعود إلى بشريته إلا بعد رجوعه إلى عالمه الذى كان قد أنسلخ منه وبهذا الاستغراق يفنى الذاكر عن حسه و بشريته
ويظل يرقى فى عالم الملكوت فيدرك أنه في السماء الأولى بشاهد ملائكتها وأنواع عبادتهم ويخاطبهم ويخاطبونه
ثم يرقى إلى الثانية ويعرف ما يعرف مما بها ويتعرف على عبادة من فيها وما ترجوه الملائكة من ربها
وتحيط بحقيقة كل سماء وكواكبها و أملاكها وعلوم أهلها وهكذا ترقى من سماء إلى سماء حتى سدرة المنتهى
وهذا هو المسمى بالعروج الروحي للأولياء وعلامة إنخراق القلب للذكر أن المريد يشعر بخفه في أعضائه حتى يكاد يطير بخفته وإذا سكت لسانه عن الذكر تحرك قلبه في صدره بالذكر
فاذا ظل وداوم على ذلك وصل الذكر إلى سره وهنا تكون الغيبة عن الذكر والذاكر في المذكور عز وجل فيكون الهيمان
حتى إذا ترك الذكر لم يتركه الذكر ولا تذهب عنه الأنوار ولا يطيب له قرار إلا بمشاهدة المذكور سبحانه وتعالى بلا أين ولا كيف.
{ المنار الهادي ص ١١٩ }
وقال العارف بالله نجم الدين كبري:-
الاستغراق في الذكر إنما يكون ( اي يظهر ويكون له تأثير ) إذا احترقت الأجزاء الخبيثة فيك وبقيت الأجزاء الطيبة
وحينئذ تسمع ذكر الوجود من حولك ثم تسمع ذكر قلبك ثم جوارحك ثم كل ما حولك من جماد وحيوان ونبات ثم يفتح الله تعالى بصيرتك
وأول فتح البصيرة من العين ثم من الوجه ثم من الصدر ثم البدن كله فيرى بكل البدن الكل { الكواكب الدرية }
والله سبحانه وتعالى أعلي وأعلم وأحكم. وضلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
.
* المراجع :-
* شعب الإيمان للبيهقي
* إحياء علوم الدين للغزالي باب الأنس
* الكوكب الدري في مناقب ذي النون
المصري لمحي. الدين ابن العربي
* تهذيب الأسرار في أصول التصوف لعبد
الملك الخركوشي النيسابوري
* رسائل ابن عربي تحقيق سعيد عبد الفتاح
طبعة دار الثقافة الدينية
* المنار الهادي في خصائص شيخنا القاضي
للعارف بالله عبد الجليل قاسم
* الفتوحات المكية لمحي الدين ابن عربي
* الكواكب الدرية لعبد الرؤوف المناوي
* الطبقات لعبد الوهاب الشعراني
* القواعد الكشفية لعبد الوهاب الشعراني
* شعائر العرفان في الواح الكتمان لمحمد
وفا الشاذلي .
* شرح مؤيد الدين الجندي علي فصوص
الحكم
.
.