باب الدعاء وأسراره

حديث النبيﷺ عن عدم استعجال العبد لإجابة دعاؤه

روي عن حضرة النبيﷺ

يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي. ( متفق عليه )

وقال سبحانه وتعالى﷽ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( سورة الحجر )

* البيان * 

أدع ربك ليس اعتراضا ولا رفعا لما نزل بك والا فقد اتهمت ربك في رحمته ولطفه بك .

بل أدع ربك عبادة وتذلل وانكسار سواءا أعطاك أو منعك لأنه ليس لك أحد سواه ترجوه فيعطيك ما تحب وقتما يحب لا ما تحب ووقتما يريد لا ما تريد

فإن لم يستجب لك فيكفيك علمه بحالك وما هو أصلح لأحوالك وأنه انعم عليك بالدعاء ذاته والتوجه إليه وحده

قال أحدهم لا أحمل هم الإجابة ولكني أحمل هم الدعاء لأن الدعاء علامة ذكره لي فاخشي أن يجيب فأنسي دعاؤه وإذا نسيت دعاؤه فقد نسيني ولا أريد سوي ذكره لي فهو أحب إلي من مطلبي .

  • اقوال العارفين في ذلك *

الوجه الأول:-

  • قال العارف بالله عبد القادر الجزائري:-

[[ قال المولي سبحانه وتعالى ﷽ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان [ سورة البقرة ]

اعلم أن الحق عز وجل لا يعطي أحدا ما يطلبه بلسان مقاله ( قوله ) إلا إذا وافق طلب لسانه طلب استعداده فإذا خالف طلب الاستعداد طلب اللسان فلا يعطي ( للعبد ) إلا ما طلبه الاستعداد

( اي إذا لم تكن عندك القدرة والاستعداد لما تطلبه منعه عنك أو أخره عليك رحمة بك لعدم قدرتك علي ما تطلبه من ربك أيا كان ما كان ذلك الطالب وذلك المطلوب.

فالحق عز وجل لا يمنع أحدا ( إذا طلب منه ) عن بخل فالآية الكريمة وإن كانت مطلقة ظاهر اللفظ فهي مقيدة بطلب الاستعداد وسؤاله فإن مدار الأمر كله على الاستعداد للقبول سواء طلب أو لم يطلب .

( أما الحق سبحانه وتعالى فهو كريم وخزائنه لا تنفد والمنع منه لك رحمة بك وحرصا علي ما فيه النفع والخير لك فاجعل الدعاء عبادة فإن اعطاك فاشكره وإن لم يعطك فاشكره فاللجوء إليه أحب إليه من أن تنال غرضك)

فالحق سبحانه وتعالى حكيم في عطائه ومنعه فلا تتعجل ولا تتهم مولاك لأنه أحاط بكل شيء علما

الوجه الثاني:-

قال العارف بالله ابن عطاء الله السكندري:-

[] لا يكن تأخر أمد ( زمن ) العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبا ليأسك فهو ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك لا فيما تختاره لنفسك وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد.

فقال العارف بالله ابن عباد الرندي:-

الإجابة حاصلة لكل داع بحق حسبما ورد الوعد الصدق من الله تعالى بذلك إلا أن الإجابة أمرها مفوض إلى الله تعالى يعجلها متى يشاء .

وقد يكون المنع وتأخير العطاء إجابة وعطاء لمن فهم عن الله تعالى في ذلك فلم ييأس العبد من فضل الله تعالى إذا رأى منعاً أو تأخيراً ، وإن ألح في دعائه وسؤاله وقد يكون تأخير ذلك إلى الآخرة خيراً لك.

فقد جاء في بعض الأخبار : -

يبعث العبد ( يوم القيامة) فيقول الله تعالى ألم آمرك برفع حوائجك إليّ فيقول بلى وقد رفعتها إليك فيقول الله تعالى ما سألت شيئاً إلا أجبتك فيه

ولكن أنجزت ( أعطيت) لك البعض في الدنيا وما لم أنجزه في الدنيا فهو مدخر لك فخذه الآن حتى يقول ذلك العبد ليته لم يقض لي حاجة في الدنيا

الوجه الثالث:- ذكر جلال الدين لرومي مثالا علي حكمة تنزيل القران نجوما اي متفرقا وعلي أزمنة متعدد وليس مرة واحدة والعلة في نزوله علي ذلك.

فنستشهد بهذا المثال ايضا في بيان معني الحديث :-

فقال العارف بالله جلال الدين الرومي:-

[] إذا جئت إلى العطار وجدت لديه كثيرا من السكر لكنه يرى كم أحضرت من النقود فيعطيك بقدر ذلك والنقود يراد بها هنا الهمة والاعتقاد .

فبقدر همة الإنسان واعتقاده ينزل عليه الكلام ( الحكمة والعلم وكذلك المال والثروة وكل ما تطلبه )

فإذا جئت تطلب السكر ينظرون في أوعيتك كم تتسع وعلى قدرها يكيلون لك مكيالاً واحدا أو مكيالين أما إذا أحضر أحدهم قطارا من الجمال وعددا كبيرا من الأوعية فإنهم يأمرون بأن يحضر الكيالون .

وهكذا يأتي إنسان لا تكفيه بحار ويأتي إنسان تكفيه بضع قطرات وما ذاد عن ذلك يكون ضررا له .

ولا ينطبق هذا فقط على عالم المعاني والعلوم والحكمة . بل ينطبق على كل شيء الثروة والذهب والمعادن ( وكل ما تطلبه من ربك ) لا حد لها ولا نهاية

لكنها تنزل على قدر طاقة الشخص لأنه لا يتحمل أكثر من ذلك ويصاب بالجنون( أو أي ضرر لعدم قدرة تحملك لطلبك )

ألا ترى أن مجنون ليلي وغيرهما هؤلاء العشاق هاموا على وجوههم إلى الجبال والصحاري بسبب عشق امرأة لأنهم حملوا من الشوق والشـهـوة أكثر مما يقدرون على حمله؟

ألا ترى أن فرعون عندما انصب عليه المال والملك فوق طاقته ادعى الألوهية قال سبحانه وتعالى

قال سبحانه وتعالى﷽ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ

وإن من شئ فليس ثمة شيء أي شئ من حسن وقبيح ( قبيح بوجهة نظرك وليس عند الله قبيح ) إلا عندنا خزائنه التي لا حدود لها لكننا نرسله على قدر ما فيه من مصلحة لك

* تتمة * 

قال العلامة القرطبي في تفسيره : - قال سيدنا عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما إذا أشار أحدكم بأصبع واحدة فهو الإخلاص في الدعاء وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء . وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه وظاهرهما مما يلي وجهه فهو الابتهال .

كما روي عن حضرة النبيﷺ المسألَةُ أن ترفعَ يديْكَ حذوَ منْكبيْك، أو نحوَهُما، والاستغفارُ أن تشيرَ بأصبعٍ واحدةٍ، والابتِهالُ أن تمدَّ يديْكَ جميعًا ( سنن أبي داود عن إبن عباس )

والله سبحانه وتعالى أعلي وأعلم وأحكم. وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد. وعلى اله وصحبه اجمعين . .

  • المراجع *

  • تفسير القرطبي سورة البقرة آية ١٨٦

  • غيث المواهب العلية لابن عباد الرندي ص ١٤

  • المواقف الروحية للجزائري الموقف رقم ٣٢

  • فيه ما فيه لجلال الدين الرومي ص ٦٠-٦١

  • بستان الفقراء ونزهة القراء للكتامي الباب ٥٩