قال تعالى:
﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ﴾
* أقوال العارفين في ذلك:-
قال الإمام عبد القادر الجزائري:-
اعلم : أنَّ الضرّ والشرّ والمنع وإنما نسب إلى الحق تعالى وتسمّى بالضارّ والمانع من حيث أنه خالق كلّ شيء لا موجد سواه
وإلاَّ فهو لا يريد الشرّ والضرَّ و المنع بخلاف الخير والنفع والعطاء. ولهذا عبّر بالإمساس في الضرّ، فإنَّ المسّ قد يكون بغير قصد ولا إرادة.
وأتى بالإرادة في الخير وقال تعالى:﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾.
وما قال : والشرّ وقال: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾
وقال النبي ﷺ في دعائه لربه عز وجل ( والشر ليس إليك ) إذ ليس للحق تعالى إلاَّ إعطاء الوجود والوجود من حيث هو وجود كل خير والشر هو المعدم
* وقوله تعالى﴿فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ﴾
فلا يرفع أحد غيره تعالى ما مسّك به من الضرّ، من حيث قابليتك ومزاجك، وربما كان ذلك خيراً لمن لم يكن مزاجه وقابليته مثلك
ألا ترى الشمس حقيقة واحدة يتنعم بها المبرود ويتضرر بها المحرور فعين ما تنعّم به العبد يتضرّر به الآخر وكشفه تعالى لذلك لا يكون إلاَّ من وراء حجب صور مخلوقاته المسماة أسباباً
وقد لا يظهر الأثر والخاصية مع وجود السبب عادة، ثم تظهر الخاصية والأثر في زمان آخر
فكما أنه سبحانه وتعالى ما مسّك بالضّر إلاَّ بواسطة سبب مشهود أو غير مشهود وكذلك لا يكشفه تعالى إلاَّ متحجباً بصور مخلوقاته مشهودة أو غير مشهودة حسّية أو معنوية لابدَّ من ذلك لا استعانة بمخلوقاته
ولكن حكمة الله تعالى قد أمضاها في العالم وأخفاها عن أكثر عباده أضلَّ بها من شاء وهدى بها من شاء
وهكذا هو فعله وخلقه بلا واسطة، ولكن لابدَّ من الحجاب ( وهي الأسباب )
فما ظهرت معجزة من نبيّ ولا كرامة من وليّ ولا شيء من الأشياء إلاَّ بحركة محسوسة أو معنوية أقلّه حركة اللسان أو جمع الهمة
وذلك لإثبات الأسباب التي وضعها الله في العالم
وأن الأسباب لا ترتفع أبداً. وكلّ من زعم أنه رفع سبباً بغير سبب فليس عنده علم
فالقائل برفع الأسباب العادية التي أجراها الحق تعالى في العالم حتي وإن كان مراده تجريد التوحيد وإطلاق القدرة الإلهية فقد أساء الأدب وما أعطى الحكمة الإلهيّة حقّها
﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾.
وقد يكشف الله الضرّ عن الإنسان من حيث يقصد ومن حيث لا يقصد. ومن حيث يشعر ومن حيث لا يشعر على تعدد أنواع الضرّ
فقد يجعل الله كشف الضرّ في شربة ماء أو لقمة واستنشاق هواء والإنسان لا قصد له بذلك ولا شعور.
فإن السبب لابدَّ منه لكن ما يجعله الحق تعالى سبباً. وكلامنا هذا مع من يعتقد أن الآثار تظهر عند الأسباب العادية
أما القائل بالأسباب المعتمد عليها إليها المعتقد أنها تفعل بطبعها أو بقوّة أودعها الله فيها فهذا نوع من الشرك الصريح وصاحبه ممن استعبدته الأسباب وأضلّته فنظره مقصور على الصور وأعمى عن مصورها ومسبّبها جل جلاله
وأما ما ورد في صحيح البخاري في السبعين ألف الذين يدخلون الجنّة بغير حساب وذكر من صفاتهم أنهم لا يرقون ولا يسترقون... الحديث بطوله
فليس المراد منه بيان أفضلية هؤلاء على الذين يتعاطون الأسباب على الوجه المشروع، كيف؟!
واستعمال الأسباب طريقة أكمل الخلق وأعلمهم بالله تعالى وهم الأنبياء والكمّل من ورثتهم
وإنما المراد من الحديث الإخبار بأن طائفة من أمّته هذا عددهم يكون هذا مقامهم لا يرتقون إلى أعلى منها
ولهذا لمَّا ذكر النبي ﷺ أحوال هذه الطائفة لم يطلب أحد من الصحابة هذا المقام إلاَّ عكاشة بن محصن وهو بدوي حديث عهد بصحبة النبي ﷺ
ولم يطلب ذلك أحد من الخلفاء ولا من العشرة المبشرين بالجنه ولا أحد من علماء المهاجرين والأنصار
لعلمهم أن الكمال والشرف محصور في أفعال الأنبياء صلوات الله عليهم ( وهي الأخذ بالاسباب لأنها حكمته والاعتماد على المسبب وهي قدرته الغير متعلقه بسبب أو عدمه )
ولم ينقل عن نبيّ قط أنه ترك الأسباب ولا أمر بتركها ( الا إذا كان من باب المعجزة تأييداً لرسالته)
فما أشار النبي ﷺ بترك سبب عادي يعلمه فأكمل الخلق لهم الزهد والادّخار والتوكّل والأسباب
ولقد حفر الخندق وجنّد الأجناد وأعطى عياله قوت سنتهم، وتداوى واحتجم،
وقال في مرضه: (أهريقوا عليَّ من أفواه سبع قرب لهم تتحلّل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس)
وقال أيضا ﷺ: (الحمّى من فيح جهنّم فأبردوها بالماء)
وصحَّ أن السيدة عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين كانت أعلم أهل زمانه بالطبّ فسئلت عن سبب ذلك؟
فقالت: إن رسول الله ﷺ الله كان يمرض وكان الأطباء يصفون له الأدوية فتعلّمت الطب هذه هي طريقة الكمّل من نبيّ ووليّ كامل
إلاَّ أن يكون الولي ممّن غلب عليه الحال أو كانت له حالة مخصوصة مع الله مع كماله وهو نادر والنادر لا حكم له فهذ النوع من الخلق يسلم له ولا يقتدى به
ولقد قال تعالى.﴿وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ﴾
أتى في كلمة «الخير» في الآية بالإرادة لأنه تعالى يريد الإيجاد وهو خير كم قدّمنا فالخير مراد بالذات مقصود له تعالى والضرّ والشرّ والمنع إنما كان من قبل القوابل وأمزجتها
فالقابل ( الإنسان) الذي يقبل الأمر والنهي الإلهي ولا يغّيره يكون كلّ شيء في حقه خيراً وعطاءً ونفعاً كالأنبياء والكمّل من ورثتهم،
وذلك لاتساع قوابلهم واستعداداتهم، فلا يتضايقون ( ولا يجزعون) من شيء ورد عليهم، فلذا كانوا دائماً في جميع أحوالهم راضين عن الله تعالى
( بما قضي وقدر ) وهو راض عنهم ( بحسن استقابلهم لمراده آخذين بأسباب لحكمته ولكن معتمدين علي قدرته لا علي الأسباب )
فلا يرون شيئاً ضرّاً ولا شرّاً ولا منعاً وما يحصل لهم من الآلام إنما محلّه ظواهرهم وأنفسهم فقط ( والقلوب قريرة راضية )
* فما عليك إلا الأخذ بالاسباب في كل شيء من دفع ضر وجلب نفع ودواء وسعي الخ لأنها حكمته في الدنيا بشرط الاعتماد على الله تعالى وقدرته المطلقة وليس علي الأسباب تكن موحدا ظاهرا وباطنا
والله سبحانه وتعالى أعلي وأعلم وأحكم وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين
.
* المراجع:-
* صحيح البخاري ومسلم وسنن البيهقي
* المواقف الروحية لعبد القادر الجزائري موقف رقم
٢٨٢ طبعة العلمية بتصرف
.
.
جواهر العارفين في الحديث والقرآن المبين