قوله سبحانه وتعالى
هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
* قال الإمام الشيرازي:-
وأما كونه ظاهراً فلأنه عز وجل نور السموات والأرض، والنور حقيقته الظهور، لأن ما ليست حقيقته النور فإنما يظهر بالنور، والنور بنفسه ظاهر وبذاته متَجَلّ.
وأما كونه باطناً - أي مختفياً - فلشدة ظهوره ووضوحه ولأجل ذلك يختفي على الضمائر والأنظار ويحتجب عن العقول والأبصار
فذاته بذاته متجل للاشياء ولأجل قصور بعض الذات عن قبول تجلّيه يحتجب فبالحقيقة لا حجاب إلاَّ في المحجوبين.
والحجاب هو القصور والضعف والنقص وليس تَجَلّيه إلاَّ حقيقة ذاته لأن صفاته ليست زائدة على ذاته كما أوضحه الربّانيون.
فانظر إلى الشمس التي هي أشد الأنوار الحسية وأقوى الأضواء البَصَرية كيف احتجبت لفرط ظهورها على الحاسة البصرية
حتى أنه لا يمكن للبصر لأجل ضعف قوته أن يلاحظها إلاّ من وراء الحجاب كالمرآة أو الماء أو السحاب الرقيق
فكذلك الحق سبحانه، فإنه وإن لم تُحيط بحقيقته العقول والأفكار ولم تدرك ذاته البصائر والأبصار، إلاَّ أنه ليس لوجهه نقاب إلاَّ النور، ولا لذاته حجاب إلاَّ الظهور
ولم يمنع القلوب من الاستنارة والاستجلاء بعد تزكيها عن كدورات الشهوات إلاَّ شدة الإشراق وضعف الأحداق.
فسبحان من اختفى عن بصائر الخلق نوره واحتجب عن عقولهم لفرط الوضوح ظهوره وهو بكل شيء عليم لأنه بنور ذاته يظهر جميع الأشياء على ذاته
( تفسير الشيرازي بتصرف يسير جدا )
* وقال الإمام إسماعيل حقي الخلوتي :-
الأول الآخر هو الذى لامفتتح لوجوده ولامختتم له بثبوت قدمه واستحالة عدمه وكل شىء منه بدأ واليه يعود
ومن عرف أنه الأول غاب عن كل شىء به ومن عرف انه الآخر رجع بكل شىء اليه
وخاصية الآخر صفاء الباطن عما سواه تعالى فاذا واظب عليه انسان فى كل يوم مائة مرة خرج من قلبه سوى الحق
ومن قال بعد صلاة ركعتين خمسا واربعين مرة { هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شىء عليم } حصل له ماطلبه ايا كان
( روح المعاني للخلوتي بتصرف )
* وقال الإمام عبد القادر الجزائري:-
( العبد ) المحجوب في حال حجابه يعتقد أن له وجوداً مستقلاً منفصلاً عن الوجود الحق جل جلاله ويعتقد ( العبد)؛أنه هو الظاهر بالصورة المحسوسة المنسوبة إليه المسماة بزيد أو عمرو
وكذلك يعتقد أن له صفات مغايرة عن صفات الحق سبحانه وتعالى من قدرة وإرادة وعلم ونحوها كما يعتقد أن له أفعالاً صادرة عنه، هو فاعلها، إمَّا خلقاً أو اكتساباً.
قال الإمام الشاذلي قوله جل جلاله﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾. قد محق المولي عز وجل بهذه الآية الأغيار كلها كما قال الإمام الشاذلي .
فلا أول إلاَّ هو، ولا آخر إلاَّ هو، ولا ظاهر إلاَّ هو، ولا باطن إلاَّ هو.
فصفات العبد التي يعتقدها أنها مغايرة لصفات الحق تعالى ليست كذلك وإنما هي صفات الخلق قائمة بالحق جل جلاله
لكنها لما ظهرت في مرتبة التقييد تقيدت آثارها. إذ المقيّد لا تكون آثاره إلاَّ مقيدة. ويظهر الإطلاق في آثاره إطلاقاً نسبياً
وأول مراتب الإطلاق النسبي قوله تعالى: ((فإذا أحببته كنت سمعه وبصره)) الحديث بطوله. ومحال أن يكون الحق تعالى سمع غيره وبصره وسائر قواه.
لأنَّه سبحانه وتعالى ذات والذات لا تقوم بغيرها. ومحال أن تقوم صفاته بغير ذاته تعالى فافهم إشارة الحقّ عز وجل
فإنَّه: السامع والسمع والمسموع والبصير والمبصر والبصر... الخ وكذلك أفعال العبد المحجوب ( عن ربه ) التي يعتقدها أفعاله، ليست كما يتوهّم العبد
( المواقف الروحية رقم ١٥ )
وقال الإمام أيضا : إن اعتقاد العارفين ومشهد الواصلين أنهم لا يرون إلا الحق تعالى وإن خالطوا الناس وعاشروهم، فليسوا معهم، وإن رأوهم لم يروهم من حيث هم فلا يرون منهم إلا كونهم من جملة أفعال الله تعالى
فإنهم يشاهدون الصانع في الصنعة فلا تحجبهم الصنعة عن الصانع فلا جمعهم يحجبهم عن فرقهم ولا فرقهم يحجبهم عن جمعهم
فمقامهم كان الله ولا شيء معه ولم يزل كذلك ولا يزال كذلك ولا شيء معه. فالعالم بأسره على تفاصيله وتعداده عندهم
إنما هو ظهور الحق سبحانه وتعالى في مظاهر أعيان الممكنات بحكم ماهي عليه الممكنات من الاستعدادت
فليس الوجود الحقيقي إلا الذات الحق تعالى والعالم كله في الوجود الخيالي.
ولما ظهرت الأعيان الثابتة في الوجود الحق أعطته أسماءها فسمي عرشاً وكرسياً وعقلاً ونفساً وطبيعة وملكاً وإنساناً.
ومثال ذلك مثل قوس الرحمن الذي يسميه الناس خطأ قوس قزح وألوانه ومثل الحرباء وتلونها
كذلك صور المحدثات واختلافها فإنك تعلم علماً يقيناً أنه ما ثمّ لون ولا متلون مع شهودك ذلك يبصرك
كذلك صور العالم في الوجود الحق فتقول أن هناك عالم لأنك تشهده ببصرك وما ثم عالم فليس إلا الله تعالى
( المواقف الروحية رقم ٣٥٥)
* قال ابن عطاء الله السكندري:-
ما حجبك عن الله وجوده وجود معه إذ لا شئ معه ولكن حجبك عنه توهم موجود معه فهو الأول والآخر والظاهر والباطن
واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله فالفعل لا يصدر من غير صفة والصفة لا تفارق الموصوف فالفعل متحد والفاعل واحد والصفة متحدة والمتصف بها واحد
فالحق سبحانه وتعالى منزه عن الأين والجهة والكيف والمادة والصورة ومع ذلك لا يخلو منه أين ولا مكان ولا كيف ولا جسم ولا جوهر ولا عرض
لأنه للطفه عز وجل هو سار في كل شئ ولنوريته ظاهر في كل شيء ولإطلاقه واحاطته متكيف بكل كيف غير متقيد بذلك
ومن لم يذق هذا ولم يشهده فهو أعمى البصيرة محروم عن مشاهدة الحق
قال الشيخ عبد السلام بن مشيش :-
حدد بصر الإيمان تجد الله تعالى في كل شيء وعند كل شئ وقبل كل شئ وبعد كل شئ وفوق كل شئ وتحت كل شيء وقريبا من كل شئ ومحيطاً بكل شئ لكن : -
بقرب هو وصفه وبحيطة هي نعته وابتعد عن الظرفية والحدود وعن الأماكن والجهات وعن الصحبة والقرب في المسافات
وامحق الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن وهو الله كان ولا شئ معه وهو الآن على ما عليه كان أنتهي.
واعلم أن هذه أمور ذوقية ( لا كلامية ولا فلسفية ولا تأتي بالتعلم بل بالمجاهدة التي يعقبها مشاهدة وذوق ووجدان )
فاعتقد كمال التنزيه وبطلان التشبيه وتمسك بقوله عز وجل ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير )
واعلم أن الأكوان لا وجود لها من ذاتها فلولا ظهور الحق بها ما ظهرت ولا وقع عليها أبصار الخلق كما قال القائل
من لا وجود لذاته من ذاته
فوجوده لولاه عين محال
فلم يبق إلا الحق لم يبق كائن
فما ثم موصول وما ثم بائن
وما مثال الكون إلا كالثلج ظاهره جامد وباطنه مائع فإذا ذوبت الثلج رجع إلى أصله ماء ولم يبق للثلج أثر
فكذلك المكونات الحسية إذا ظهرت أسرارها اللطيفة التي قامت بها ذابت ذواتها الكثيفة ورجعت لأصلها وإلى هذا المعنى أشار الجيلي في العينية بقوله
وما الكون في التمثال إلا كثلجة .
وأنت لها الماء الذي هو نابع
فما الثلج في تحقيقنا غير مائع
ولكن بذوب الثلج يرفع حكمه
ويوضع حكم الماء والأمر واقع
فمن وقف مع ظاهر الثلج أنكر الماء الذي في باطنه وكان جاهلاً بحقيقتها ومن نفذ إلى باطنه عرف أصله وفرعه
وكذلك الأكوان ظاهرها غرة لمن وقف مع كثافتها وباطنها عبرة لمن نفذ إلى أصلها
وقد مثلوا أيضاً الكون مثل صورة جبريل حين كان يتصور في صورة دحية فمن رآه كثيفاً قال دحية وأنكر أن يكون ملكاً من الملائكة
ومن عرف أصله لم ينكره ولم يقف مع ظاهره فإذا تلطف ورجع إلى أصله ذهبت تلك الصورة واضمحلت فكذلك الكون إنما هو خيال
فما دام موجوداً في الحس رأى وظهر فإذا رجع إلى أصله بظهور أسراره التي قام بها اضمحل ولم يبق له أثر .
فالحق سبحانه وتعالى ظاهر في بطونه باطن في ظهوره ما ظهر به هو الذي بطن فيه وما بطن به هو الذي ظهر فيه أي ما ظهر فيه بحكمته هو الذي بطن فيه بقدرته وما بطن فيه بقدرته هو الذي ظهر فيه بحكمته
وهو قول بعضهم:
لقد ظهرت فلا تخفى على أحد
إلا على أكمه لا يبصر القمرا
واعلم كيفية النظر والاعتبار في المكونات لتعرف ظهوره تعالى فيها فقد أباح لك أن تنظر في المكونات وما أذن لك أن تقف مع ذوات المكونات
والله سبحانه وتعالى أعلي وأعلم وأحكم وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
.
* المراجع:-
* سورة الحديد آية رقم ٣
* تفسير الشيرازي بتصرف يسير جدا
* تفسير روح البيان للالوسي
* تفسير روح المعاني للخلوتي بتصرف
* المواقف الروحية لعبد القادر الجزائري
بتصرف يسير جدا
* لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري
* الحكم العطائية لأبن عجيبة الحسني
* النادرات العينية لعبد الكريم الجيلي شرح
عبد الغني النابلسي
.