قوله سبحانه وتعالى:-﷽
( ولا ترفعوا أَصْوَنَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي ) سورة الحجرات
.
- أقوال العارفين رضي الله عنهم في ذلك :-
اعلم أن الأدب أساس ركيز وشرط أساسي من شروط القرب من الله تعالى ومعرفته ولذلك قال العارفين أن التصوف كله أدب وهذا الأدب يستمد نوره من الكتاب والسنة
فمن حرم الأدب حرم المدد الرباني فالتصوف هو قلب ولب الشرع منبعه درجة الإحسان في حديث سيدنا جبريل مع النبي ﷺ ( أن تعبد الله كأنك تراه )
فمن كان في ظل مراقبة ربه في كل لحظة لا يصدر منك الا كل أدب خشية الطرد أو العقاب أو العتاب من ربك لمشاهدته لك
فمعني أن الإحسان كله أدب :-
وهو حقيقة التصوف أن لكل وقت أدب ولكل حال أدب ولكل مقام أدب فمن التزم الأدب يبلغ مبلغ الرجال
ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب ومردود من حيث يرجو القبول
ومن تأديب الله تعالى أصحاب رسول الله ﷺ قوله تعالى: ﷽ ( ولا ترفعوا أَصْوَنَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي )
- قال السري السقطي : حسن الأدب ترجمان العقل
وهذه بعض الأداب مع الله تعالى : .
- ١- الأدب في استقبال النعم :-
كان النبي ﷺ يجلس جلسة العبيد عندما يتناول الطعام ويسمي ربه في أوله وبحمده في آخره ويغسل يده أو يتوضأ قبل الطعام ويأكل من أمامه
وكان سيدنا زين العابدين بن سيدنا الإمام الحسين عليهما السلام لا يأكل مع أمه في طبق واحد فسأله الناس عن ذلك فقال
أخاف أن آكل لقمة وقعت عين أمي عليها لتأكلها فأكون عاصيا وعاق لوالدتي
وكان النبي يأكل ما يوجد ولا يسأل عن طعام معين ولا يأكل بشره نفس بل بأدب وتؤدة
وقال جلال الدين الرومي :-
من لا أدب له يبقى محروما من عطف الرب فمن لا أدب له لا يقتصر أذاه على نفسه وإنما هو يشعل النار في جميع الأفاق اي يتأذي ويتضرر من فعله جميع الخلق والمخلوقات
ولقد كانت المائدة تنزل من السماء علي قوم سيدنا موسي ( وهي المن والسلوي ) بدون عناء وبدون بيع وشراء وبدون تعب
ولكن جماعة من قوم سيدنا موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام قالوا بوقاحة ( وعدم الأدب منهم )
أين الثوم والعدس فانقطع عنهم خبز السماء ومائدتها وبقي لهم عناء ومشقة الزراعة والكدح بالفأس والمنجل ولكن عندما شفع سيدنا موسي لدى الحق أرسل لهم الغنيمة مرة أخرى
فعادوا ثانية إلي أسلوب أهل الوقاحة وإلى ترك الأدب فتخاطفوا الطعام فناداهم سيدنا موسي على نبينا وعليه الصلاة والسلام قائلا
إن هذه المائدة دائمة لن ينقطع ورودها إلى الأرض إن سوء الطلب والحرص أمام مائدة الإله العظيم يعتبر كفر . . فمن الأدب مع الله تعالى في نعمته ان ترضي بما وصل اليك ولا تتطلع الي غيره .
٢- الأدب في العبادات :-
- امرنا حضرة النبي ﷺ أن ندخل في الصلاة بسكينة وخشوع وألا نهرول في المسجد فما أدركت من صلاتك فصلي وما فاتك فأتمه
ولا تزاحم الناس علي الصف الأول أو أي شيء لأنه رزقك مقسوم لا يأخذه غيرك من حسنات وثواب ورزق ...الخ
ومن الأدب ألا تنام قبل الفجر ولو بساعة لأن المولي عز وجل يتجلي في الثلث الأخير من الليل كما روي عن حضرة النبي ﷺ
[ إذا كان ثُلُثُ الليلِ أو شَطْرُه ( نصفه ) يَنزِلُ اللهُ إلى سماءِ الدنيا فيقولُ هل من سائلٍ فأُعطيَه هل من داعي فأستجيبَ له هل من تائبٍ فأتوبَ عليه هل من مستغفِرٍ فأغفرَ له حتى يَطْلُعَ الفجرَ ]
( اخرجه الأئمة مسلم والترمذي وغيرهما بالفاظ متباينة)
فهل من الأدب أن يتجلي عليك ربك بإجابة ما تريد وأنت نائم غافل
-
وكذلك الصيام بحفظ الجوارح من معصية ظاهرة وباطنة بالنظر إلي معصية وغيبة ونميمة وأنت صائم
-
والحج والعمره بألا تكون من أهل السب والشتم والفسوق والعصيان فيهما وعدم مزاحمة الناس والصبر عليهم وحسن الخلق معهم
-
والزكاة بأن تكون بشوش في وجه السائل كما قال تعالي ﷽ ( وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ )
وتكون يدك أسفل من يده حتي لا تجرح مشاعره من جهة ومن جهة أخري أنت تعطيه الدنيا وهو الصدقة
وهو يعطيك الآخرة بثواب عملك فلذلك اجعل يدك السفلي ويده العليا أديا مع المولي عز وجل فيه وأن تختار المال النظيف أو طهره بالعطر
كما روي عن الفضيل بن عياض حيث وجد ابنه ينظف الدراهم قبل أن يعطيها للفقير
فقال له الفضيل إن عملك هذا يا بني عندي أفضل من حَجتين وعشرين عمرة
( لأنه روي عن حضرة النبي ﷺ أن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير ) .
٣- الأدب مع الله تعالى في العادات ومع العباد :-
-
بأن لا تغتسل عاريا حتي ولو كنت وحدك كما روي عن حضرة النبي ﷺ عن رب العزة جل جلاله ( إن الله حي ستير يحب الحياء والستر )
-
ولا تمشي في الطريق أمام الأب والأم والعالم والشيخ والأستاذ الذي تتعلم منه كما روي عن هارون الرشيد
حيث وجد رجلا كفيفا في الطريق فنزل من علي فرسه وقبل يده فقيل له لماذا فعلت ذلك فقال هارون لقد كان يعلمني كتاب الله تعالى
ولا ترفع صوتك علي أمك وأبيك ولا تنظر إليهم نظرة غضب ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما
كما روي في الخبر من نظر إلي والديه نظرة رحمة نظر الله إليه من فوق سبع سموات
قال العلماء من نظر الله تعالى إليه لا يشقي بعدها أبدا لا دنيا ولا آخرة
وقال أبو يزيد البسطامي وكذلك قال سهل التستري وغيرهما ما وصلت إلي رضي ربي ومعرفته إلا برضي أمي . .
٤- الأدب مع نعمة الزوجة والأولاد :
*. سيرة حضرة النبي ﷺ مع زوجاته وذريته بحر كبير مملوء بالادب وحدث ولا حرج فانظر كيف تعامل النبي ﷺ مع زوجاته وأولاده بنظرة النعمة لا الشهوة
وهذا مثال بسيط لذلك :-
كانت السيدة صفية زوجة حضرة النبي ﷺ تريد ركوب الناقة فوضع النبي يدييه مع بعضها وقتل لها ضع قدمك علي يدي ثم رفعها علي الناقة
هل هناك تواضع وأدب مع نعمة الزوجة مثل ذلك كالذي يفتح باب السيارة لزوجته حتي تركب
فهذا الفعل من أفعال السنة المحمدية ذات الذوق الرفيع والأدب الجميل وكذلك خدمتها ورعايتها وكذلك الأولاد
وأما الولد فكان لا يصيح في وجههم بل يعلمهم دون تخويف ويصبر علي من ساءت أخلاقه دون قصد في فعل أو قول .
- لا تشتم ولا تسب ولا تسيء الي حاكم أو محكوم لأن كل شي لا يحدث في الوجود إلا بقدر الله تعالى وعلمه فلا نافع ولا ضار ولا عاطي ولا مانع إلا الله تعالى
فلا تشهد إلا ربك عز وجل فهذا من دقائق التوحيد أن تؤمن بيقين أن النفع والضر والعطاء بيد الله الذي بيده ملكوت كل شيء وأن الخلق والمخلوقات أسباب
فمن نظر إلي أفعال وأقوال العباد بعين الشريعة من سوء كرههم ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم واشفق عليهم .
- تتمة وحاصل ما سبق:-
كل ما أصابك من ظلمات وغم وحرمان ليس إلا نتيجة للتبجح والوقاحة وسوء الأدب بكل معانيه وأساليبه
في إستقبال العطاء الإلهي من جهة وفيما امرك به من متطلبات العبودية لله عز وجل من جهة ومعاملتك مع خلق الله تعالى من جهة أخرى
فكل من أظهر وقاحة في طريق الحبيب جل جلاله فهو قاطع طريق للناس من النعم ونزول النقم والبعد عن ربك سبحانه وتعالى وعن معرفته
كما قال أبو الحسن الشاذلي :-
ما وصلنا الي الله تعالي بالعبادة والطاعة وأنما بالأدب وسخاوة الصدر والشفقة علي عباد الله تعالى
فإذا امتلأت بالأدب في أفعالك وأقوالك وحركاتك وسكناتك امتلأت بالنور في القلب والقالب
وعرفت ربك حق المعرفة القائمة علي الأدب العالي بشهود ربك لك في السر والعلانية وفي السراء والضراء .
والله سبحانه وتعالى أعلي وأعلم وأحكم وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين .
-
المراجع:-
-
القران الكريم
-
صحيح الإمام مسلم والترمذي
-
انظر الطبقات للشعراني والكواكب الدرية لعبد الرؤوف المناوي ترجمة كل من :-
العارف بالله السري السقطي وعبد الوهاب الشعراني
أبو يزيد البسطامي وسهل التستري والفضيل بن عياض
-
انظر لطائف المنن لإبن عطاء الله السكندري
-
شرح المثنوي لجلال الدين الرومي للدكتور محمد عبد السلام الكفافي ج 1 .