الرسالة الثانية في التصوف أخلاق العبد الرباني
حقائق التصوف

الرسالة الثانية في التصوف أخلاق العبد الرباني

هذه الرسالة في بيان حقيقة واخلاق وسلوك العبد الذي صفا حاله وقلبه لربه . وهذه بعض الصفات وليس كلها فهي قطرات من بحر النور الإلهي الذي افاضه المولي علي خواص خلقه من الأولياء الذين التزموا سنة حضرة النبيﷺ منهج وسلوك وأحوال ظاهرا وباطنا . بإيجاز شديد فرضي الله عنهم أجمعين .

واعلم يقينا أن هذه الأخلاق لم يصل إليها العبد الرباني إلا بفضل الله تعالي اولا وبكثرة ذكر الله والجوع والصمت فهذه الثلاثة دعائم الطريق الي التحلي بهذه الأخلاق.

فمن هذه الصفات:-

  • لا يشغله عن أداء الحقوق شئ من عبادة وخدمة ورعاية وصلة أرحام ويعطي كل وقت حقه وكل انسان حقه لا وجود للكسل أو الملل لمعرفته بعظمة ربه فتعظيم الأمر من تعظيم من أمر به عز وجل

قال سعيد الحيري: إن الله يعطي الزاهد فوق مايريد وبعطي الراغب دون ما يريده ويعطي المستقيم موافقة مايريد .

          *قصة في هذا المعني السابق *

كان العارف بالله أبو حاتم الراعي صاحب أغنام يقيم على شاطئ الفرات، ويسلك طريق العزلة. فقال أحد المشايخ مررت بالشيخ ابو حاتم فوجدته يصلي والذئب يحرس الغنم .فبقيت لحظة حتى فرغ من الصلاة وسلمت عليه، فقال: يا بني ! لأي أمر جئت قلت لزيارتك قال: خيرك الله.

قلت: أيها الشيخ ! إني أرى الذئب موافق الغنم فقال لأن راعي الغنم موافق للحق. قال هذا وكان لديه وعاء خشبی تحت حجر تفجرت فيه عينان إحداهما لبن، والأخرى عسل. فقلت له: يا شيخ! بم نلت هذه الدرجة؟ قال: بمتابعة النبي محمد عليه الصلاة والسلام. (بتصرف لتيسير المعني)

  • إذا وفقه المولي لعمل وعبادة معينة من صدقة فلا يتركها حتي وان ضاقت عليه الأقدار فإن الله يخلف عليه أكثر مما يتوقع وإن كانت عبادة معينة في وقت معين من ذكر او صلاة أو تلاوة القرآن بحزب أو جزء فلا يتركه أبدا.

حتي لو وجد حلاوة في هذه العبادة وهي مراد النفس فلا يتركها لأن الذي فتح له هذا الباب هو ربه ووفقه لها .كان عمل حضرة النبيﷺ ديمة اي يدوم عليه وإن كان قليلا حتي لو متعب فلا يتركه فإن الله يمده بقوة وقت العمل . فلتجاهد جهادا ملازما ، ولا تمل ولا ترخص لنفسك في ترك الاشتغال بالعبادة

  • أن يكون حمالا للأذى من جميع الخلائق لا يؤذي من يؤذيه بل يصبر ويعفو وإذا قدر غفر لعلمه أن الله تعالي سلط عليه من يؤذيه اختبارا له ولحاله أو تأديب له بسبب ذنب فعله فيسكت أدبا مع ربه ولا يعامل الخلق بمثل معاملتهم ولأنه يشهد فعل ربه في كل شيء وبكل شئ ولأن العبد إذا كان بالله كان الله له أعطاه إذا حرمه الناس ونصره إذا أذاه الناس

        *قصة في هذا المعني السابق *
    

الأولي عندما جاء أعرابي يريد قتل النبي النبيﷺ وكان سيفه معلق علي الشجرة فقال الرجل للنبي من يمنعك مني الآن فقال النبي الله فوقع السيف من الرجل فأخذه النبي وقال له نفس الكلمة من يمنعك مني ثم عفا عنه رسول اللهﷺ.

فمن كان بالله ويشهد فعل ربه في كل شيء وبكل شئ فإنه لا يخشي من شئ لانه في حماية من خلق كل شيء

الثانية :- ما حدث للعارف بالله الأمير عبد القادر الجزائري في احدي معاركه :- ذات ليلة تسلل رجـل دون أن يراه الحـراس إلى خيمة الأمير وهو منهمك في تلاوة القرآن، وعندما سمع صـوت الأقـدام رفع رأسه فرأى زنجيا طويل القامة واقفا أمامه وفي يده خنجر لكن فجأة رمى الرجل الخنجر وخـر مرتميـا عـلى قـدمـي الأمـير قائلا: «لقـد جـئـت لأطعنك ولكن منظرك قد جردني من سلاحي فقد رأيت هالة النبـي فـوق رأسك» ووقف عبدالقادر ببطء دون أن يظهر عليه أي تأثر ووضع يده على رأس الزنجي وقال له «لقد دخلت خيمتي قاتلًا وإن الله الذي قـد هـداك إلى التوبة قد حكم علي أن تخرج منها بريئا فاذهـب وتذكر أن عبـدالله قـد عـفـا عنك»...

حتى عدوه الشرس السفاح الجنرال بوجو الفرنسي شعر بلوائح الولاية التي تشع من الأمير فوصفه في بعـض رسائله بأنه في شكله يشبه المسيح

واعترف بمثل ذلك الجاسوس ليون روش يقول عنه: «يحمل بيده اليمنى دائمًا سبحة سوداء يسبح بها بسرعة ولا يتوقف عن التسبيح عندما يخاطبه مخاطب، وإن بحث فنان على صورة لعابد من عباد القرون الوسطى يضعها على لوحتـه فإنه لن يجد حسب رأيي نموذجـا أفـضـل مـن الأمير، إن مزيجـا مـن مـضـاء العزيمة على الجهاد ومن الزهد يضيء محياه بفتنة رائعة». ( فهذا حال الصوفي مجاهد مع النفس ومع الدنيا بالعمل ولا يشغله شئ عن ربه راضيا بفعله مستسلم لقضائه فلا يحزن ولا يفرح لا من فعل حبيب أو عدو لأنه يري فعل ربه ولا يري سواه .)

  • لا يتحدث فيما لا يعنيه ولا يشمت ولا يذكر أحد بغيبة ولا يقع في المحرمات . قال العارف بالله ابراهيم الدسوقي: يا ولدي إن أردت أن يسمع الحق تعالى دعاءك ، فاحفظ لسانك عن الكلام في الناس وبطنك عن تناول الشبهات ، فمن أطاع الله أطاعه كل شئ وسخر الله له الماء والنار والخطوة في الهواء ، وأذعن له الإنس والجن

  • لا يعترض علي قضاء الله وقدره في نفسه أو في الناس . فلا يلوم ولا يسب ولا ينتقص حاكم أو محكوم لعلمه بأن كل ما يجري في الوجود بعلمه وارداته .

  • يغض طرفه عن كل ما نها الشرع عن رؤيته. لان من غض بصره فتح الله تعالى بصيرته

*كريم يفضل غيره علي نفسه في مال أو جاه ومن كرمه لا يزاحم الناس في ثواب الآخرة مثل من أراد أن يقف في الصف الأول للصلاة أو لدخول المسجد أو لخدمة يتيم أو أرملة كل عمل خير إذا وجد من يريده تركه له إيثار للفضل أن يكون لأخيه وليس له

  • يدعوا بالصلاح لمن أساء إليه ولمن ظلمه ولمن أخذ حقه لعلمه أن الرزق من مال وجاه واخلاق وقدر كله مقسوم لا يزيد ولا ينقص

قال سعيد الحيري: يمكن للرجل العاقل أن لا يلوم من ظلمه بأن يعلم أن الله تعالى سلطه عليه ( إما تأديب لك أو لخير لا تعلمه ولا يصل إليك إلا بذلك)

قال العارف بالله أحمد الرفاعي:- لا يحصل للعبد صفاء الصدر حتى لا يبقى فيه شيء من الخبث لا لعدو ولا لصديق ولا لأحد من خلق الله عز وجل حينئذ تستأنس الوحوش بك في الصحراء والطير في أوكارها ولا تنفر منك ويتضح لك معني الحاء والميم .

فحسن الخلق حقيقته مع من ظلمك أو أساء إليك وليس مع من احسن إليك لأنها مكافأة بالمثل فلقد روي عن حضرة النبيﷺ إنَّ اللهَ قَسَّمَ بينَكُم أخلاقَكُم كما قَسَّمَ بينَكم أرزاقَكُم .الخ الحديث

وقال وهب بن منبه: ما ارتفع من ارتفع بكثرة صوم ولا صلاة ولا مجاهدة وإنما يرتفع العبد عند ربه بالخلق الحسن . ( أما سمعت قول حضرة النبيﷺ: اقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وقال حضرة النبيﷺ أدبني ربي فأحسن تأديبي ( ولم يقل علما وغيره )

*زاهد في دنياه :- وليس الزهد في الشيء هو خروج الإنسان عنه ( من حرفة وعلم وتعلم وصناعة وتجارة الخ فالزهد يجعلك تستخدم المال في معاونة الناس من زكاة وصدقة والجاه والمكانة في رفع الظلم وجلب الحقوق الناس وخدمتهم وليس التعالي عليهم وأن يكون قلبك متشوق دائما الي ذكر الله فهذا هو الزاهد الذي يملك نفسه ولا تملكه يملك الدنيا ولا تملكه وأن ) يكون الرجل داخلا في إمارته أو صنعته وقلبه خارج عنها جائل في ملكوت الله ذاكر مفكر . قلبه مع ربه دائما مخمول الذكر بين الناس ( أي لا يعرف حالك أحد من الناس لأنك اكتفيت بعلم الله فيك وبحالك )

فإن الصالحين من شأنهم القيام في حرفتهم ليستروا حالهم بين الناس قال الله تعالى:- رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .(سورة النور] فوصفهم بالرجولة مع قيامهم في الأسباب لان التجارة أو الصناعة لم تلههم عن ذكر الله فهؤلاء هم فحول العارفين

وقال يحي بن معاذ:- حقيقة الزهد :- الزهد يورث السخاء بالملك والحب يورث السخاء بالروح. ولا تبلغ حقيقة الزهد إلا ثلاث خصال: عمل بلا علاقة ( اي لا تطلب به الوصول لشئ فتعبد ربك ولا تجعل العبادة علة للوصول لشئ أو تعطي من مال وتخدم الناس بالجاه والمنصب للوصول إلي رضي ربك وإنما هو فضل الله تعالى يعطيه من يشاء بعلة أو بغير علة فكن عبدا لله وليس عبد علة وطلب )

  • لا يغفل عن ربه ليلا ونهارا:- لايشغله مال أو ولد او دنيا لأن الله سبحانه وتعالى يطلع على عباده في كل يوم وليلة اثنتين وسبعين مرة ، فنظفوا محل نظر ربكم واجعلوه طاهرا مطهرا حسنا نقيا زاهرا صادقا خالصا ليرتع في رياض القرب ويظهر فيه النور فإن الإناء إذا لم يكن شفافا لا يظهر للفتيلة فيه نور .

  • لا يصاحب من من يتكرم بضياع أوقاته وأنفاسه في الغفلات فإن صحبته هلاك. بل يصاحب من تؤثر فيك عباراته وتغير فيك إشارته وتتذكر وتذكر ربك بمجرد رؤيته وتشعر بأنك في حضرة ربك بجلوسك معه وسماع علمه أو حتي لو كان صامت

قال العارف بالله بن خفيف الشيرازي: عليك بمن يعظك بلسان فعله لا بلسان قوله . وقال غيره : أصحب من تهذبك رؤيته ويؤثر فيك حاله وتتركه وقد ذادك من نوره أدب مع الله وحبا في المولي عز وجل

  • لا يحب لقاء الناس لأنسه بربه إلا ما كان لضرورة الحياة فلا يجلس مجالس غيبة ونميمة وقيل وقال ويكره الأقاويل الإشاعات ولا يخالط النساء إلا من أحل الله له وتكون للضرورة

  • يري ويعلم يقيناً أن المنة والفضل من الله تعالى عليه في كل الأحوال وأنه عاجز عن أداء شكر المنعم من كل الوجوه والتبرؤ من الحول في كل شيء.

وأن كل عمل وعبادة وقول صالح بفضل الله تعالي عليه فلا يدخل الي نفسه الكبر والعجب ويعلم أن رضي الله عليه ودخوله جنته برحمته وفضله وليس بعمله وقوله لان العمل والقول من توفيق ربه وليس له من الأمر شئ

  • لا يركن قلبه إلا الله فإذا ضاقت أحواله لجأ بربه ليس للخلق في قلبه مكان .

          *قصة في هذا المعني السابق *
    

قال الامام الشعراني:- قمت ليلة فوجدت قساوة في قلبي لم أعرف لها سببا. فقيل لي في المنام إن أردت حياة قلبك التي لا موت بعدها، فاخرج من قلبك الركون إلى الخلق ( والاعتماد عليهم والانشغال بهم أو الخوف منهم لأنها مقادير الله وليس بيد المخلوق شيء) وليموت هواك وإرادتك. فهناك يحييك الله عز وجل حياة لا موت بعدها، ويغنيك غنى لا فقر بعده ويعطيك عطاء لا منع بعده، ويريحك راحة لا تعب بعدها، ويعلمك علماً لا جهل بعده، ويطهرك طهارة لا نجاسة بعدها، ويرفع قدرك في قلوب عباده فلا تحقر بعدها.

                                  * * * * 

المراجع كشف المحجوب للهجويري / الجواهر المضيئة للقطب الدسوقي/ الجواهر والدرر للشعراني/ طبقات الصوفية / حلية الأولياء / تحفة الزائر في مآثر الأمير عبدالقادر وأخبار الجزائر/ التصوف والأمير عبدالقادر الحسني الجزائري / .