حديث النبيﷺ عن الاجتهاد ثم التقليد
أحاديث المعاملات

روي عن حضرة النبيﷺ

إذا حكَم الحاكمُ فاجتَهَد ثمَّ أصاب فله أجرانِ وإذا حكَم فاجتَهَد ثمَّ أخطأ فله أجرٌ

{ أخرجه الطبراني عن سيدنا عمروا بن العاص}

وفي رواية البيهقي:- إذا أصاب فله عشرة

   * البيان * 

هذا حديث من ضمن الأدلة على صحة ومشروعية الاجتهاد في الشريعة وهناك دليل اخر يؤكد ذلك :-

كما في قصة الجماعة الذين أرسلهم النبيﷺ إلى بني قريظة فقال لهم النبي ﷺ لا يصليّن أحد منكم العصر إلا في بني قريظة

فصلى فريق منهم وأخّر الصلاة فريق منهم ولم ُيعنّف لا الذين صلوا الصلاة في الوقت ولا الذين تأخّروا

فهذا إقرارا لاجتهاد المجتهد سواء أخطأ أو أصاب وأما من يقول ليس هذا إقرار من النبي ﷺ فهو متعنت

   * أقوال العارفين في ذلك* 

[[ قال العارف بالله محي الدين ابن العربي:-

المجتهد المعبر عنه بلسان علماء الشريعه هو الذي يستنبط الحكم عندهم وهو العالم .

قال تعالى ﷽

{ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ. ( سورة النساء ) }

فهذا حظ الناس اليوم من التشريع بعد رسول الله ﷺ. ونحن نقول به ولكن لا نقول بأن الاجتهاد هو ما ذكره علماء الرسوم بل الاجتهاد عندنا

هو بذل الوسع في تحصيل الاستعداد الباطني الذي به يقبل هذا التنزل الخاص .

إلا أنه لا سبيل إلى مخالفة حكم ثابت قد تقرر من الرسول ﷺ في نفس الأمر فإن لم يكن ذلك في نفس الأمر فلا يلقي إلى هذا المجتهد الذي ذكرناه إلا ما هو الحكم عليه في نفس الأمر حتى أنه لو كان الرسول ﷺ حياً لحكم به مع أنه قرر حكم المجتهد

وإن أخطأ فما أخطأ إلا في الاستعداد كما ذكرناه فلو أصاب في الاستعداد ما أخطأ مجتهد أبداً بل لا يكون مجتهداً في الحكم وإنما هو ناقل ما قبله من الحق النازل عليه

ولقد كان سيدنا محمد ﷺ أعظم خليفة وأكبر إمام وكانت أمته خير أمة أخرجت للناس وجعل الله ورثته في منازل الأنبياء والرسل فأباح لهم الاجتهاد في الأحكام فهو تشريع عن خبر الشارع ﷺ ( فكل مجتهد مصیب )

ليحصل لهذه الأمة نصيب من التشريع وتثبت لهم فيه قدم فلم يتقدم عليهم سوى نبيهم ﷺ فتحشر علماء هذه الأمة وهم حفـاظ الشريعة المحمدية في صفوف الأنبياء لا في صفوف الأمم فهم شهداء على الناس وهذا نص في عدالتهم .

فإن كنت من أهل الاجتهاد في الاستنباط للأحكام الشرعية فأنت وارث نبوة شرعية فإن الله تعالى شرع لك في تقرير ما أدى إليه اجتهادك.

ودليلك من الحكم أن تشرعه لنفسك وتفتي به غيرك إذا سئلت وإن لم تسأل فلا . فإن ذلك أيضاً من الشرع الذي أذن الله لك فيه

واعلم أن الاجتهاد ليس معناه أن تحدث حكماً جديدا وإنما الاجتهاد المشروع في طلب الدليل من كتاب أو سنة أو إجماع وفهم عربيا على إثبات حكم في تلك المسئلة بذلك الدليل الذي اجتهدت في تحصيله

فإن الله تعالى ورسوله ما ترك شيئاً إلا وقد نص عليه ولم يتركه مهملا .فإن الله تعالى

يقول ﷽ { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ( سورة المائدة ) }

وبعد ثبوت الكمال فلا يقبل الزيادة فإن الزيادة في الدين نقص من الدين وذلك هو الشرع الذي لم يأذن به الله تعالى

قال الله تعالى لنبيه ﷺ

{ إنا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ ( سورة النساء ) }

ولم يقل بما رأيت بل عتبه سبحانه وتعالى لما حرم على نفسه باليمين في قضية عائشة وحفصة .

فقال تعالى ﷽ {يا أيُّها النبيُّ لم تُحَرِّم مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْواجِكَ }

فكان هذا مما أرته نفسه ﷺ فهذا يدلك أن قوله تعالى بما أراك الله أنه ما يوحي به إليه لا ما يراه في رأيه فلو كان الدين بالرأي لكان رأي النبي ﷺ أولى من رأي كل ذي رأي

فإذا كان هذا حال النبي ﷺ فيما أرته نفسه فكيف برأى غيره ممن ليس بمعصوم والخطأ أقرب إليه من الإصابة

فدل أن الاجتهاد الذي ذكره رسول ﷺ إنما هو طلب الدليل على تعيين الحكم في المسألة الواقعة لا في تشريع حكم في النازلة فإن ذلك شرع لم يأذن به الله تعالى.

فاجتهاد علماء الأمة هو استنباط الأحكام من الكتاب والسنة وأعني بالسنة الحديث لا من قياس فرع على فرع بل قياس فرع على أصل

فإن قياس الفرع على الأصل هوا المستنبط الذي يثبت بالاجتهاد وجعله الفقهاء أصلا رابعاً كما جعلوا الإجماع أصلا ثالثاً ولولا أن الشارع قرر حكم المجتهد من علماء هذه الأمة ما ثبت له حكم .

فالمجتهدون من علماء الشريعة ورثة الرسل في التشريع وأدلتهم تقوم لهم مقام الوحي للأنبياء واختلاف الأحكام كاختلاف الأحكام ، إلا أنهم ليسوا مثل الرسل .

فاختص الله تعالى هذه الأمة أعني علمائها بأن شرع لهم الاجتهاد في الأحكام وقرر حكم ما أداه إليه اجتهادهم وتعبدهم به وتعبد من قلدهم به ، كما كان حكم الشرائع .

** تنبيه **

ليس للمجتهد أن يفتي في الوقائع إلا عند نزولها لا عند تقدير نزولها وإنما ذلك للشارع الأصلي ﷺ لاحتمال أن يرجع عن ذلك الحكم بالاجتهاد عند نزول ما قدر نزوله

ولذلك حرم العلماء الفتيا بالتقليد فلعل الإمام الذي قلده في ذلك الحكم الذي حكم به في زمانه لو عاش إلى اليوم كان يبدو له خلاف ما أفتى به فيرجع عن ذلك الحكم إلي غيره

فلا سبيل أن يفتي في دين الله إلا مجتهد أو بنص من كتاب أو سنة لا بقول إمام لا يعرف دليله .

ولهذا كان من عرف الإمام مالك بن أنس في دينه وورعه أنه إذا سئل عن مسألة يقول نزلت ؟ فإن قيل له نعم أفتى وإن قيل له لم تنزل لم يفت وسببه ما ذكرنا .

لأن المصيب للحكم المعين في تلك المسألة واحد لا بعينه والمخطىء واحد لا بعينه ولهذا قال العلماء كل مجتهد مصيب

فإما مصيب للحكم الإلهي فيهـا على التعيين أو مصيب للحكم المقرر الذي أثبته الله له إذا لم يعثر على ذلك الحكم المعين وأخطأه .

فليلزم كل مجتهد ما أداه إليه اجتهاده ولا يتعرض إلى تخطئة من خالفه فإن ذلك سوء أدب مع الشارع ولا ينبغي لعلماء الشريعة أن يسيؤوا الأدب مع الشرع فيما قرره .

فليس لمجتهد أن يرد مجتهداً آخر إلى حكم ما أعطاء دليله ولا أن يرد مقلد مجتهد آخر عن مسألته التي قلد فيها إمامه .]]

{ الفقه عند محي الدين ابن عربي } .

  • وقال العارف بالله سعيد بن جبير الكوفي الأسدي:-

[[ إذا رأيت رجلا يعمل عملا اختلف فيه ( اي توسع العلماء في حكمه ) وأنت تري غير ذلك فلا تنهاه عن فعله ]]

{ الكواكب الدرية )

  • وقال الإمام عبد القادر الجزائري:-

[[ أن المجتهد إذا أصاب ما هو الحكم عند الله تعالى في النازلة، ووافق ما في نفس الأمر كان له أجران أجر الاجتهاد وأجر الإصابة

وإن أخطأ ما هو الحكم عند الله تعالى وما وافقها في نفس الأمر كان له أجر واحد وهو أجر الاجتهاد

فليست الإصابة إلا في الباطن وهي موافقة ما عند الله - تعالى - في النازلة وليس الخطأ إلا في الباطن وهو عدم الموافقة لما هو - تعالى - في النازلة

وأما في الظاهر فالكل مصيب لأن الشارع قرر حكم كل مجتهد ولو كان خطأ المجتهد في الظاهر ما قرره الشارع ولما جعله دينا مشروعًا قلده ولما كان له أجر بل يكون عليه وزر

فكل مجتهد مصيب في الظاهر، حيث إنه بذل وسعه وأدى ما كُلف به، في طلب الحكم الحق في النازلة، وأما في الباطن؛ فالمصيب واحد لا بعينه من المختلفين.]]

{ المواقف الروحية } .

  • ثانيا التقليد :-

[[ وقال العارف بالله محي الدين ابن العربي:-

قد أمر من لا علم له بالحكم الإلهي أن يسأل أهل الذكر فيفتونه بما أداهم إليه اجتهادهم وإن اختلفوا ( أي توسعوا في حكم المسألة

وليس معني الاختلاف الخلل والتناقض فهذا يؤدي إلي أن هناك نقص والنقص محال في شريعة الله تعالى ورسوله ﷺ وليس هذا هو مقصد الإمام رضي الله عنه)

وكذلك لكل مجتهد جعل له شرعة من دليله ومنهاجاً وهو عين دليله في إثبات الحكم ويحرم عليه العدول عنه وقرر الشرع الإلهي ذلك كله

فلم يجيز الشافعي ما أجازه الحنفي وأجاز أبو حنيفة عين ما منعه أحمد بن حنبل فأجاز هذا ما لم يجز هذا

فالمقلد مطلق فيها يجيء به المجتهدون ويختار ما يشاء فله الاتساع في الشرع فإن كنت مقلداً فلا تلتزم مذهباً بعينه بل اعمل كا أمرك الله فإن الله أمرك أن تسأل أهل الذكر إن كنت لا تعلم وأهل الذكر هم أهل العلم بالكتاب والسنة .

فاطلب رفع الحرج في نازلتك ما استطعت فإن الله سبحانه وتعالى يقول :-

﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ ( سورة المائدة)

وقال حضرة النبي ﷺ ؛-

 إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولنْ يشادَّ الدِّينُ إلاَّ غَلَبه فسدِّدُوا وقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، واسْتعِينُوا بِالْغدْوةِ والرَّوْحةِ وشَيْءٍ مِن الدُّلْجةِ

( .  رواه البخاري عن أَبِي هريرة رضي الله عنه)

فاسأل عن الرخصة في المسئلة حتي تجدها فإن قال لك المفتي هذا حكم الله أو حكم رسوله في مسئلتك فخذ به

وإن قال لك هذا رأيي فلا تأخذ به وسل غيره وإن أردت أن تأخذ بالعزائم في نوازلك فافعل ولكن فيما يختص بك ورفع الحرج هو السنة . .

  • أجر المقلد إذا أخطأ المجتهد :

قال تعالى ( فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وأهل الذكر هم أهل القرآن وهم أهل الاجتهاد ومنهم المصيب والمخطىء فإذا سأل المقلد من أخطأ من أهل الاجتهاد في نفس الأمر وعمل بها أفتاه فإنه مأجور لأنه مأمور بالسؤال.]]

{ الفقه عند محي الدين ابن عربي }

والله سبحانه وتعالى أعلي وأعلم وأحكم. وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد. وعلى اله وصحبه اجمعين.

 * المراجع * 
  • صحيح البخاري
  • الرسالة للإمام الشافعي
  • الفقه عند الشيخ محي الدين ابن عربي لمحمود الغراب بتصرف يسير
  • الكواكب الدرية للمناوي ترجمة سعيد الكوفي
  • المواقف الروحية لعبد القادر الجزائري موقف رقم ١٢١

.