حديث النبيﷺ عن حقيقة السفر
أحاديث المعاملات

حديث السفر روي عن حضرة النبيﷺ

كان النبيﷺ إذا استوى على بعيرهِ خارجاً إلى سفرٍ كبَّرَ ثلاثاً ثم قال

سُبحانَ الذيِ سخَّر لنَا هذا وما كنَّا لهُ مُقرِنينَ وإنَّا إلى رَبِّنا لمُنقلبُون اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العملِ ما ترضى

اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطو عنَّا بعده أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثَاءِ السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل

وإذا رجع قالهن وزاد فيهن:

آيبون تائبون عابدون لربِّنا حامدُون.فلم يزل يقولها حتى دخل المدينة.

{ أخرجه مسلم عن سيدنا عبد الله بن عمر}

الحديث من حيث لفظه واضح بما يقوله العبد عند استخدام نعمة ذات حركة وتنتقل به من مكان لآخر بأن يقول هذا الذكر فيكون في عناية وحماية خاصة وسياج من الأمان . .

وأما من جهة التأويل ففيه إشارات .

الإشارة الأولي في الحديث:

[[ قال العارف بالله عبد الوهاب الشعراني:

من الأدب أن نقول إن الله تعالى معنا ولا نقول نحن معه .

لأن الشرع لم يرد به والعقل لا يعطيه لعدم تعقله لما لا يكيف ولولا ما نسبه تعالى إلى نفسه من المعية السارية معنا لم يقدر العقل أن يطلق عليه تعالى معية

فهو تعالى ظاهر المعية من الوجه الذي يليق بجلاله. كما أنه تعالى ظاهر الصحبة من الوجه الذي يليق به تعالى .

كما قال ﷺ : اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل والسفر مأخوذ من الإسفار وهو الظهور .

وقال العارف بالله علي المرصفي:-

من الأدب أن نقول إن الحق تعالى معنا وإنه مستو على عرشه ونسكت عن تحقيق كونه معنا بذاته أو بعلمه ، فإن ذلك أكثر تعظيماً لله تعالى وإن كانت الصفات لا تفارق الذات .

وصفات الحق جل وعلا ضد صفات الخلق فإن صفاتهم قد تفارق ذاتهم كمن سلب صفة العلم أو صفة السمع أو صفة الإبصار فإن الذات لا يظهر فيها نقص كما يظهر بقطع الأذن أو قلع العين أو قطع اليد انتهى ]]

{ميزان العقائد }

الإشارة الثانية:-

اعلم يا ولي في الله تعالي أن السفر في حياتك علي أربعة مراحل

١- سفر من صلب ابيك الي رحم أمك ٢- وسفر الدنيا ٣-- وسفر للآخرة ٤ - وسفر الي ربك

الأول:_

  • سفر من صلب الي ابيك الي رحم أمك

وهو السفر من عالم الغيب الي عالم الظهور اي من علم الله تعالى الي عالم الوجود ثم سفر النطفة من صلب الأب الي رحم الأم ثم سفر النطفة في جميع اجزاء جسد الام قبل الدخول في الرحم

ثم من الرحم الي عالم الخلق والولادة ثم من الميلاد الي القبر ثم من القبر الي عالم البرزخ ثم من البرزخ الي عالم يوم القيامة ثم الي الجنة بإذن الله تعالى حسن ظن منا بالله عز وجل

وفي كل هذه المراحل أنت في صحبة ربك وربك معك وتحت رعايته لاحول ولاقوة لك بل بقدرة وكفالة وكفاية وعناية وتربية ربك لك وانت ضعيف بلا قدرة ولا مكر ولا دهاء ولا حيلة تتقلب بين يديه كالميت

فكما أنه لم بنساك في عالم الغيب والأرحام . فكيف ينساك وأنت بين الأنام وكيف ينساك وانت تدعوه والخلق نيام فلا حاكم ولامحكوم ولا قوي ولا ضعيف يستطيع أن يمنع أو ياتيك برزق ربك فافهم

لأن ذلك من صلب الايمان بالله واحذر عن نسيان ذلك فكن صاحب أدب مع من يصاحبك لا تشك في قدرته ولا رزقه وتثق فيما عنده أكثر من ثقتك بنفسك وبالناس

رب خالق رازق وقادر لا ينسى من خلق كيف ينسي عبد شاكر وذاكر لرب الناس والفلق

  • الثاني سفر الدنيا :

وهذا السفر لابد فيه من التكبير والتسبيح كما في أول الحديث حيث قال الله اكبر ثلاث وسبحان الذي سخر لنا هذا ..الخ

اكبر ثلاث مرات اي أن ربك اكبر من ان أي شئ في قلبك فلا تخشي أحدا من الناس علي رزقك لأن من هاب الناس لم يهاب ربه ومن اعتمد علي الناس وكله ربه الي نفسه والناس فتنال رزقك بهموم وتعب وسعي فيه مشقة وكرب

لأنك كبرت مقام الخلق ونسيت عظمة من يرزقك والتسبيح أن تنزه ربك عن كل ما يخطر ببالك بأن رزق الله لا يتوقف علي سبب اوعلة

وإلا فقد جعلت السبب والعلة هي الحاكمة علي ربك وهذا من دقائق التوحيد الحقيقي فلابد وأن تعلم أن يرزق ويشفي ويعطي ويمنع بلا علة .

فقد امرك بالسعي وهذا مطلبه منك وعليه السعة وهذا فضله عليك وهذه حقيقة التوكل علي الله تعالى أن يسعي جسدك وقلبك معتمد علي ربك

فقد يرزق ما لا تتوقعه بعمل صغير وبسيط كما أنه يشفيك بدواء رخيص وغيرك لا يجد ذلك .

  • والبركة في سفر دنياك:

من سعي لابد وأن لا تنسي ربك فالصاحب من المصاحبة وهي مراقبة ربك لك وأنه معك علي الدوام في التجارة والصناعة والزراعة والأعمال كلها في نومك في يقظتك وحتي يعينك وتنال بركة الصحبة

تتورع في رزقك بترك الحرام وشبهاته وعدم المكر بالناس واذاهم من أجل الرزق لأن الحيلة والمكر والكذب لا يجلبوا الرزق بل تنال ما قدره لك مع الهم والحزن

لأنك أصبحت خائن لمن يصاحبك فحق الصحبة الصدق مع الله والأدب في جلب الرزق والشفقة علي الناس والاعتماد على ربك لا نفسك وسعيك.

فإذا وفيت الصحبة حقها منع عنك كآبة المنظر وسوء المنقلب في أهلك وولدك ومالك في الدنيا بالبركة فيهم صلاحا وعلما وعملا وعافية وفي الآخرة بالستر

وإذا لم توفي الصحبة حقها من صدق وورع ومراقبة لربك ورضي وعدم حيلة ومكر تري سوء المنقلب في أهلك وولدك ومالك بمعيشة كلها مشاكل وهموم مع الزوجة والأولاد واولاد غير صالحين

يكونون عاقين عاصين لك وأمراض كثيرة وبلاءات وفقدان مال وعزيز كل ذلك تربية من ربك لك وعقاب دنيوي حتي تموت طاهرا من كل علة تكون سببا فى شقاء الآخرة

[[ قال عبد الله بن المبارك:-

  • لا يقع موقع الكسب على العيال شئ ولا الجهاد في سبيل الله

وقال سعيد بن المسيب:-

لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله يعطي ويكف به وجهه ويصل منه رحمه ويؤدي منه أمانته ويستغني به عن خلق ربه

وقال علي الخواص:

عليكم بإصلاح الطعمة ما استطعتم فإنها أساسكم الذي يتم لكم به بناء دينكم ، وأعمالكم الصالحة إذ الأعمال تابعة للقمة صلاحا وفسادا فلا ينشأ من أكل الشبهات إلا شبهات ولا من أكل الحرام إلا حراما .

  • صحبة الناس في سفر الدنيا:-

وفي ذلك المعني قال العارف بالله أبو عثمان الحيري:

صحبة مع الأولياء :

الصحبة مع أولياء الله تعالى تكون بالاحترام والخدمة لهم لأن الله تعالى خصهم بما لم يخص به غيرهم

صحبة مع الأهل :

والصحبة مع الأهل من الزوجة والولد والخادم والأقارب تكون بحسن الخلق معهم وبتأديبهم بما ينفعهم في دينهم

( الإصدقاء والخلان ) :

والصحبة تكون بدوام البشر وهو حسن اللقاء عند الاجتماع والسؤال عن أحوالهم وإدخال المسرة عليهم ما لم يكن ذلك إثماً .

الصحبة مع الجهال :

والصحبة مع الجهال يعني عصاة المؤمنين ممن لا يرجع بموعظة وتكون بالدعاء لهم والإنكار عليهم فيما يجب الإنكار فيه ( بالحسني لا بالشدة والغلظة ) والرحمة عليهم ( الشفقة عليهم وعدم الشماتة فيهم ) لما ابتلوا به وصرفوا إليه من مخالفة الله تعالى ]]

{ إحكام الدلالة ( بتصرف ) والدرر والجواهر }

  • ثالثاً سفر الآخرة :-

فهو سفر الدنيا السابق الذي ذكرته لك ولكن يكون معه طاعة وعبادة وصلة رحم وعلم وتعلم وفرائض حتي وان كان حال عملك يجعلك تكتفي بالفرائض فقط من صلاة وصوم وزكاة فأنت من أهل السفر للدنيا والآخرة

كما دخل أحد الرجال علي أحد العارفين فسأله العارف اين كنت قال اعمل لاكتساب رزقي ورزق اهلي فقال له من حلال قال نعم فقال له لأن اكتسب واسعي من حلال احب إلي من قيام الليل وصيام النهار .

والعمدة في ذلك النية والأدب مع ربك

فلقد روي عن حضرة النبيﷺ

من طلب الدنيا حلالاً استعفاقا عن المسألة وسعيا على أهله ، وتعطفا على جاره لقي الله تعالى يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر ومن طلب الدنيا حلالاً مكاثرا مفاخرا مرائيا لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان

{حلية الأولياء وابن أبي شيبة في المصنف}

فالسعي بالحلال وخدمة العباد من الفريضة غير فريضة العبادات فمن جمع بينهما فهو مسافر بالدنيا الآخرة فتحوز الإثنين بفضل الله تعالي

  • الرابع السفر إلي ربك :-

قال العارف بالله أبو عثمان الحيري:

[[ الصحبة مع الله :-

بدوام المعاملة معه تعالى فتكون بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة والاحترام له عز وجل.

ومع رسوله ﷺ:- باتباع سنته ولزوم ظاهر العلم مما يتعلق بالجوارح ]]

{ إحكام الدلالة ( بتصرف ) } .

وقال الإمام الغزالي:-

[[ طريق السلوك إلى الله تعالى يتم بالتبتل كما قال الله تعالى وتبتل إليه تبتيلا) [المزمل]

أي انقطع إليه انقطاعا، والانقطاع إليه يكون بالإقبال عليه، والإعراض عن غيره

والإقبال عليه إنما يكون بملازمة الذكر، والإعراض عن غيره يكون بمخالفة الهوى والتنقي عن كدورات الدنيا وتزكية القلب عنها، والفلاح نتيجتها كما قال الله تعالى: (قَدْ َأفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى)

فعمدة الطريق أمران الملازمة والمخالفة

الملازمة لذكر الله تعالى والمخالفة لما يشغل عن الله، وهذا هو السفر إلى الله وليس في هذا السفر حركة لا من جانب المسافر ولا من جانب المسافر إليه

فإنهما معا أو ما سمعت قول الله تعالى وهو أصدق القائلين (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ من حبل الوريد ]

( رسائل الغزالي }

( وهذا السفر لأهل الخصوص إن أردت أن تكون منهم بترك كل ما يشغلك عن حضرة ربك واستخدام كل وسيلة متاحة في الوصول إلي الله تعالى من حيث العلم والمعرفة به لا من حيث الوصول إلي ذاته لأنه لا يعلم ذاته إلا ذاته.

والذاد في هذا السفر أن لا تمل ولا تكل عن ذكر ربك ليلا ونهارا في كل مكان في كل وقت بالقلب واللسان في العمل في البيت في المسجد في الشارع لا يتوقف لسانك عن ذكره وقلبك مشغول بربه علي الدوام

وإن تشعر أنه مراقبا لك في كل لحظة فتخشي أن تنقطع عن ذكره أو وتغفل عنه فتحجب عن الحضرة الإلهية والحضرة المحمدية.

وملخص ما سبق في هذا السفر قال العارفين :-

كل ما يشغلك عن مولاك فهو دنيا وكل ما يقربك من مولاك فهو المطلوب

ذادك ومتاعك في هذا السفر الى ربك اثنين :

اولا :-

ان كل فعل وعمل صالح لك او لغيرك تعلم أنه من الله تعالى فضلا عليك ولا تنتظر من وراءه ثواب أو جنة أو مقام أو حال مع الله سبحانه وتعالى

فتكون عبدا صرف لله يؤدي الخدمة ويعلم أنها لا تنفعه بشي ولا يصل بها الي شئ

وأنها من فضل ربه ولا تنسب لنفسك علم أو مقام أو حال أو أنا أو فعلت أو ملكت.....الخ وإن الله تعالى بفضله يقبلك ويرفع قدرك برحمته الواسعة لا بأي شيء

ثانيا :-

لا تشهد في الوجود إلا الله عزّ وجل:

وعلامة ذلك فيك :-.
أن تستوي عندك الأشياء كلها وضدها

اي لا تحزن ولا تفرح بل تستقبل مراد الله برضي وسلامة صدر من نعمة ونقمة عز وذل عطاء وحرمان بلاء ونعماء ثناء من الناس أو ذم صحة ومرض حب او كره من الخلق تعظيمك أو تحقيرك .

فيستوي عندك كل ذلك لأنك تري فعل ربك ولا تري فعل الخلق لانه النافع والضار والعاطي والمانع....الخ )

وبهذا الزاد في سفرك لربك تكون من أهل الخصوص الذين قال المولي عز وجل فيهم :-

لاخوف عليهم ولا هم يحزنون

والله سبحانه وتعالى أعلي وأعلم وأحكم وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين

* المراجع * 
  • صحيح مسلم القشيري
  • حلية الأولياء لأبي نعيم ومصنف إبن أبي شيبة
  • ميزان العقائد الشعرانية لعبد الوهاب الشعراني ص ١٥١
  • إحكام الدلالة على الرسالة القشيرية لزكريا الأنصاري ج١ ص ١٥٥ بتصرف
  • الدرر والجواهر لعبد الوهاب الشعراني
  • مجموعة رسائل الغزالي ص ٢٩-٣٠ طبعة دار الفكر