حديث النبيﷺ هؤلاء إلى الجنَّةِ ولا أُبالي ، وهؤلاء إلى النَّارِ
المعرفة الإلهية و العقيدة

روي عن حضرة النبيﷺ عن رب العزة :- إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خلق آدمَ ، ثمَّ أخذ الخَلقَ من ظهرِه ، وقال : هؤلاء إلى الجنَّةِ ولا أُبالي ، وهؤلاء إلى النَّارِ ولا أُبالي ، فقال قائلٌ : يا رسولَ اللهِ فعلى ماذا نعمَلُ ؟ قال : على مواقعِ القدَرِ

أخرجه الحاكم في المستدرك.

. * البيان *

الحديث متعلق بمرتبة العلم، فالله عز وجل قد علم عمل كل طائفة. فقال عن طائفة ‏أهل الإيمان هؤلاء للجنة ولا أبالي. وقال عن طائفة أهل الكفر هؤلاء للنار ولا أبالي.

ولا يشعر أحد من الطائعين أو العاصين أنه مجبور على فعل من الأفعال بل كل منهم يفعل باختياره وإرادته وما كتب عليهم شيء مجهول لهم لا يعرفه واحد منهم ، وإنما يعرف الخير والشر الذي أمامه

فمنهم من يتقي الله ومنهم من يعصيه كل منهم يفعل ما يفعل مختاراً مع أمرهم جميعاً بالخير ونهيهم عن الشر والكفر وتكافؤ الفرص أمام الفريقين في المؤاخذة والعذر.

. وليس معنى هذا أن أعمالهم خارجة عن مشيئة الله وإرادته بل هي بمشيئته سبحانه فمن ‏شاء الله هدايته للخير هداه وأعانه عليه ومن شاء إضلاله منعه التوفيق فلم يعنه ولم يثبته وليس ‏في ترك إعانة من لم يعنه ظلم لهم إذ لم يمنعهم حقاً لهم.

والمؤمن يوقن بأن الله تعالى غني عن خلقه وأنه عدل رحيم لا يظلمهم مثقال ذرة بل هو سبحانه ينعم عليهم ويتفضل وهم يتبغضون إليه بالمعاصي .

فخيره عز وجل إليهم نازل وشرهم إليه صاعد فكيف يظن العبد أن الله تعالى سيظلمه فإن فهمت هذا فقد انحلت لك ‏عقدة القدر وإلا فيكفيك قوله صلى الله عليه وسلم "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" متفق ‏عليه.‏

[[ قال العارف بالله محي الدين ابن عربي:-

خلق الله الخلق قبضتين فقال : هؤلاء للنار ولا أبالي وهؤلاء للجنة ولا أبالي . فمن کرم الله تعالى لم يقل هؤلاء للعذاب ولا أبالي وهؤلاء للنعيم ولا أبالي وإنها أضافهم إلى الدارين ليعمروها

( اي لا أبالي بمعني أن طاعة الخلق لا تنفعه ومعصيتهم لا تضره ولكني أبالي بالطاعة فأجازي عليها والمعصية كذلك لكن رحمته لا يقيدها قيد ولا يحدها حد فكما أنه عز وجل مطلق فرحمته مطلقة )

فإنه ورد في الخبر الصحيح عن النبيﷺ: إن الله لما خلق الجنة والنار قال لكل واحدة ( ولِكُلِّ واحِدَةٍ مِنْكُما مِلْؤُها )

أي أملؤهـا سكاناً فيستروح من هذا الرحمة من الدارين وشـمـولها حيث ذكرهما ولم يتعرض لذكر الآلام وقال بامتلائها ، وما تعرض لشيء من عموم ذلك

فكان معنى « ولا أبالي ، في الحالتين ، لأنها في المآل إلى الرحمة فلذلك لا يبالي فيها.

ولو كان الأمر كما يتوهمه من لا علم له من عدم المبالاة ما وقع الأخذ بالجرائم ولا وصف الله نفسه بالغضب ولا كان البطش الشديد

فهذا كله من المبالاة واهتمام المولي عز وجل بالمأخوذ إذ لو لم يكن لفعل العبد قدر عنده لما عذب ولا استعد له

وقد قيل في أهل التقوى:- (وجنَّةٍ عرضُها السَّماوات والأرض أعدَّت للمتَّقين )

وقال في أهل الشقاء ( أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )

فلولا المبالاة منه عز وجل واهتمامه بأفعال خلقه لما ظهر هذا الحكم فما أعظم رحمة الله بعباده وهم لا يشعرون ، فإن الرحمة الإلهية وسعت كل شيء فما ثم شيء إلا وفيه هذه الرحمةقال تعالى:. ( إن ربك واسع المغفرة )

( ولا تنسي أنه سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وقد قال سبحانه وتعالي :- ( يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ۚ)

فلا تحجروا واسعاً فإنه لا يقبل التحجير ولقد رأيت جماعة ممن ينازعون في اتساع رحمة الله وأن هذه الرحمة مقصورة ومحددة لطائفة معينة فحجروا وضيقوا ما وسع الله .

فلو أن الله لا يرحم أحدا من خلقه لحرم رحمته ممن يقول هذا الكلام ( لأنه لولا المعصية لما ظهر اثر اسمه الغفور والغفار والتواب الخ ولكن أبى الله تعالى إلا شمول الرحمة

قال تعالى لنبيه ﷺ ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) والعالمين يشمل الانس والجن مؤمن وغير مؤمن

وما خص مؤمناً من غيره والله أرحم الراحمين كما قال عن نفسه وقد وجدنا من نفوسنا وممن حملهم الله على الرحمة ، أنهم يرحمون جميع العباد ، حتى لو حكمهم الله تعالى في خلقه لازالوا صفة العذاب من العالم لتمكن حكم الرحمة من قلوبهم .

فلا نشك أنه أرحم منا بخلقه ونحن قد عرفنا من نفوسنا هذه المبالغة في الرحمة ، فكيف يكون العذاب سرمدا أبديا عليهم بالعذاب وهو بهذه الصفة العامة من الرحمة ؟ إن الله أكرم من ذلك .

خاصة وقد قام الدليل العقلي على أن المولي عز وجل لا تنفعه الطاعاة ولا تضره المخالفة وأن كل شيء جار بقضائه وقدره وحكمه وأن الخلق مجبورون في ( عين اختيارهم أي أنك تفعل باراداتك واختيارك ما كتبه في علمه وأنت لا تشعر )

وقد قام الدليل السمعي أن الله يقول في الصحيح : ( يا عبادي ) فأضافهم إلى نفسه وما أضاف الله قط العباد لنفسه إلا من سبقت له الرحمة ألا يؤبد عليهم الشقاء وإن دخلوا النار

فقال : ( عبادي، لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنْسَكم وجِنَّكمُ اجتَمَعوا في صَعيدٍ واحِدٍ فسأَلوني فأعطَيتُ كُلَّ واحِدٍ منهم مَسألَتَه، ما نَقَصَ ذلك مِن مُلْكي إلَّا كما يَنقُصُ المِخيَطُ إذا غُمِسَ في البحر،

يا عبادي، إنَّما هي أعمالُكم، أُحصيها لكم، ثم أُوَفِّيكم إيَّاها، فمَن وَجَدَ خَيرًا فليَحْمَدِ اللهَ، ومَن وَجَدَ غَيرَ ذلك فلا يَلومَنَّ إلَّا نَفْسَه. ) ]]

( الفتوحات المكية لإبن العربي)

[[ ودخل القاضي عبد الجبار الهمداني أحد شيوخ المعتزلة على أبو إسحاق الإسفراييني المعروف بالأستاذ، وهو من أئمة السنة

فقال القاضي عبد الجبار: سبحان من تنزه عن الفحشاء. أي: عن الإذن للفواحش بالوقوع، فهو يريد أن يقول له إن الفحشاء لا تقع بإذن الله فقال له أبو إسحاق الإسفراييني  سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.

فقال القاضي وهل يشاء ربنا أن يُعصى؟ فرد عليه  إسحاق وهل يعصي العبد ربه قهراً؟

 يعني هل تقع المعصية في ملكه غصباً عنه؟ فقال القاضي: أرأيت إن منعني الهدى وقضى علي بالضلال أحسن إلي أم أساء؟

 فقال أبو إسحاق الإسفراييني إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء. فبُهت القاضي عبد الجبار ولم يستطع الرد. ]]

{شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة )

قال العارف بالله أبو الحسن الخرقاني :-

[[ لا أقول إنه لا ينبغى عليك العمل ( ما دام قد كتب علي ما سافعله فما الفائدة )

بل عليك العمل ( من عبادة وسعي في الدنيا ) لكن عليك أن تعلم هل أنت الذى تفعل ما تفعله أم أنه يفعل بك ؟ تلك هي التجارة التي يتاجر فيها العبد بواسطة الحق فسوقك رابح بربك لا بنفسك ]]

( تذكرة الأولياء للعطار )

. وقال العارف بالله أبو بكر الواسطي:-

[[ طلب العوض والتطلع إليه من ثواب وأجر على الطاعات من علامات نسيان فضل الله تعالى عليك فالمقامات أقسام قسمت فكيف تستجلب بحركات أو تنال بالسعي.

( اي عليك السعي والعمل لكن لا تظن أنك بذلك تستحق ما عنده لأن ما في خزائن علمه كتبت لك منذ الأزل وقد قسمت لك ) ]]

(تذكرة الأولياء للعطار ) . والله سبحانه وتعالى أعلي وأعلم وأحكم وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين

. * المراجع*

  • الفتوحات المكية ج٤ ص ١٦٣/ ج ٣ ص٢٥
  • شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبو القاسم هبة الله بن الحسن الرازي اللاكئي
  • تذكرة الأولياء للعطار ترجمة الإمام الواسطي
  • تذكرة الأولياء للعطار ترجمة الإمام الخرقاني