رسالة في دفع شبهات عن علم التصوف ورجاله
حقائق التصوف

دفع شبهات عن علم التصوف ورجاله :

بسم الله الرحمن الرحيم والحمدلله رب العالمين حمدا ملء السماوات والأرض وما بينهما وملء ما شاء من شئ بعد والصلاة والسلام على حضرة النبيﷺ نور القلوب وطب القوالب السراج المنير ونبراس العلم والحكمة من رب القدرة وعلي آله وصحبه أجمعين الصحابة الكرام نجوم الهداية والمختارين للنبي بعناية العناية والتابعين والعلماء والفقهاء العاملين ومن صار علي هديهم وهدي الأولياء والصالحين الي يوم الدين

اعلم يا ولي في الله تعالي :- اولا :- أن التصوف ليس اسم ولا رسم ولا مقام ولا رقص أو طرب بالدفوف أثناء ذكر الله تعالى . وليس التصوف أيضا كما هو مكتوب في معظم الكتب وعلي لسان العلماء فقر وزهد في الدنيا وضياع حال الأسرة والتسول ولبس الصوف وكثير من هذه المعاني بل التصوف من الاصطفاء الإلهي لعبده فيعينك علي صفاء ظاهرك وباطنك .

               * فمن حقائق التصوف *

اولا :- أن تملك الدنيا من مال وجاه مع التواضع والأدب وحسن الخلق مع العباد والزهد فيها ليس بترك ما وهبك ربك بل بانفاق ما اعطاك في وجوه الخير توسعة علي العباد وعلي اهلك وتضيق علي نفسك وحدك. فتطعمهم ما يحبون وترضي بالقليل تتقشف في مأكل وملبس ولا تريد سوي مولاك وفي ذات الوقت توسع علي من تكفلت بهم وتعمل لتساعد فقير ومسكين ويتيم واخ وجار وصلة رحم ومديون ومحتاج ..الخ

فإن لم تملك الدنيا وزهدت فيها فأنت تعيش في الوهم لأن ذلك عجز وليس زهد . بل السعي والكسب من السنة فالسعي بالحلال والأخذ بالاسباب هو لشريعة وأن يكون قلبك مع ربك وأنه هو المعطي والرزاق وليس الأسباب حقيقة من حقائق التصوف

ثانيا :- الأخذ بالاسباب والتعلق برب الأسباب وإن الله يرزق ويعطي ويمنع بلا اسباب أو علة حقيقة من حقائق التوحيد وأساس بل صلب معني التوكل . فالتوكل بهذا المعني والتعلق برب الأسباب وإن تملك الدنيا ولا تملكك هذه أركان أساسية في اصول هذا الحال مع الله والملقب بين الناس بالتصوف فالتصوف فعل وقول وحال محكوم بسياج الشرع بسنة حضرة النبيﷺ قول وفعل وعمل

وملخص ما سبق القلب مع الله والقالب مع الناس

ثالثا ؛- التصوف هو اخفاء حالك مع الله لكي تحافظ علي قلبك من دسائس النفس والشيطان من رياء واعجاب وشهرة وليس ظهور بين الناس بعمامة خضراء لان التصوف كالبذرة التي تغرسها في الارض فالبذرة هي قلبك وحالك هو الأرض وهو عالم الخفاء فإذا ظهر حالك بين الخلق بارادتك وليس رغما عنك فسد حالك لأن البذرة إذا وضعتها علي سطح الأرض لا تنبت كما تقول الحكمة:- الظهور يقصم الظهور .

رابعا :- ليس التصوف ملة أو فرقة من الفرق الهالكة كما يدعي الجاهلين . بل هو صفة تميز بها العبد فتقول رجل فقيه هل معني ذلك أنه فرقة أخري من الإسلام بل مسلم تميز بعلم الفقه فلان نحوي تميز بعلم النحو وهذا فيلسوف وهذا رجل كيميائي ....الخ والصوفي مسلم مثلك لكنه تميز عنك بصفة صفاء النفس بالصبر علي المكاره من اقدار والأدب العالي فمن ذاد عليك أخلاقا ذاد عليك صفاء وبصفاء القلب من كل ما لا يرضي الإله فلكثرة صفاء حاله مع ربه والناس سماه الناس بمعاملة واخلاق ظاهرية وباطنية بالرجل الصوفي ليس أكثر من ذلك

هذا الحال من الصفاء هو جوهر الدين لأن مقصوده وهدفه تقوية العلاقة أو الصلة بالله تعالى وذلك بتطهير باطنك من مفاسد الاخلاق من حقد دفين وحسد وكره وسخط علي اقدار الله تعالى وقسمته بين خلقه . وتطهير ظاهرك بالتزام الشرع والتحلي بكل خلق سليم وفعل سليم يرضي الله تعالى ورسوله فمنبع التصوف هي دائرة الإحسان التي قال فيها حضرة النبيﷺ أن تعبد الله كأنك تراه.

فالتصوف حال بين العبد وربه وليس مجرد علم تتفوه به الألسنة في الدروس أو علي المنابر أو طبل أو رقص بل هو حال وطريق وطريقة دعامتها المجاهدة والإنابة إلى الله تعالى التي تحقق اليقين ولا تحصل علي اليقين إلا بصفاء الفؤاد ونقاء السريرة . فالمنهج الصوفي يرتكز ويهتم بمعرفة الحق ومراقبته

خامسا التصوف شريعة وحقيقة:- فإن أردت الكمال فعليك بالشريعة والحقيقة معا . وكل ما شرع الله سبحانه وتعالى من الأعمال الظاهرة التي مرجعها الامتثال والاجتناب فهو شريعة والحصول على ثمرته هو حقيقة. فالشريعة هي الكتاب والسنة، والطريقة تجسيد العمل بهما فهي غير زائدة عليها لأنها عمل بأذكار مشروعة،

قال الله تعالى:" إياك نعبد وإياك نستعين"[الفاتحة: 5] فنصف الآية الأول شريعة ونصفها الثاني حقيقة. ولهذا أمر القرآن والسنة بهما معا فكلاهما شيئا واحدا

وأما السنة فقد تقدم ذكر الإحسان في حديث جبريل عندما سأل سيدنا جبريل حضرة النبيﷺ ما الاسلام ما الايمان .... كما روي عن حضرة النبيﷺ أن تعبد الله كأنك تراه. قال الإمام الجنيد رضي الله عنه: علمنا هذا مشيد بالكتاب والسنة..."

فالشريعة والحقيقة بمثابة شخص حي بالروح والجسد، فكمال الإنسان لا يكون إلا بهما معا الروح والجسد فالتشرّعُ من غير تحقّقٍ جسمٌ بلا روح والتحقق من غير تشرّع روح بلا جسد والأرواح لا قوام لها في هذا العالم إلا بالأجساد.

فالشريعة: عبادة الله وطاعته. والحقيقة: مراقبته ومعرفته ولذلك كان لإصلاح وطهارة ظاهر الإنسان تأثير كبير في تنوير باطنه الذي هو القلب بالصفاء الكامل فتري في نفسك صورة صغيرة من اخلاق حضرة النبيﷺ مع الله ومع الناس بين عبادة وعمل وعلم واقدار

                    *  ايجاز وبيان *

لا ينكر أحوال الصوفية وعلومهم ومعارفهم وحكمهم إلا من جهل حالهم. قال القشيري :- لم يكن عصر في مدة الإسلام وفيه شيخ من هذه الطائفة إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء قد استسلموا لذلك الشيخ وتواضعوا لـه وتبركوا به ولولا مزيةٌ وخصوصية للقوم لكان الأمر بالعكس".

                                   * * *

هل التصوف رقص وطرب مع الذكر والمديح؟

اعلم يا ولي في الله تعالي:- الرقص الناتج عن حالة وجدانية ليس للنفس حظ فيها ولا الهوي ولا الشيطان. فتلك حالة خاصة بل تعد من النوادر والنادر لا حكم له ولا يعمم لأن دخول الإنسان في حالة نشوي وفرح بربه تكون وقت فناء الإنسان عن الوجود والناس ولا يصل لهذه الحالة إلا إذا ماتت نفسه تماما فتصير الروح هي الحاكمة علي الجسد وليس العكس.

وللأسف الشديد أصبحت هذه الحالة طبع ونسق يفعله البعض ويعتقد بذلك أن الرقص والطرب بالدفوف وغيره جزء أساسي في الذكر. ولم يعلموا أنها أحوال مخصوصة بوقت مخصوص لأشخاص مخصوصين تركوا كل شئ حتي جسدهم ونفوسهم أصبحت غير موجودة فأخذنا هذه الحالة وأصبحت عادة.
كما روي عن بعض الأئمة ولعله الإمام الجنيد بأن جاءه رجل يعترض علي بعض الصوفية يذكرون الله وهم يرقصون بلا دفوف ولا شئ من آلات اللهو فقال له دعهم يفرحون بربهم .

فهل اليوم حالك مثل حال هؤلاء كان الرجل منهم يظل بلا طعام ايام بل شهور احيانا ولا ينام الا القليل وفي مجاهدة للنفس حتي تخضع لربها ويرق القلب لمولاه وترتقي الروح ولا يتوقف لسانه عن الذكر ولا قلبه قائما طوال ليله بين تلاوة وصلاة وذكر لا يشغله شئ سوي مولاه ابدانهم أصبحت كعود الشجر الجاف نفوسهم ماتت لدرجة أن من اذاهم أو سبهم أو أساء الخلق معهم احبوه واكرموه ودعوا الله له ولا يدعوا عليه . وهذه أوصاف قليلة جدا من أحوال تربيتهم لأنفسهم وإذلال الجسد لخدمة ربه فهل انت مثلهم حتي تفعل الظاهر وتترك الباطن

                                * * * * 

                     ثمرة التصوف:-

أعماله وأحواله تحقق لك الكمال بالمعرفة الإلهية والمعاني الروحية السامية التي يتجلي بها المولي عز وجل علي قلوب أهل الله من معارف وحقائق التوحيد وغوامض العلوم التي لا تطيقها المفاهيم البشرية والعقول القاصرة المحدودة لانه يصل بك الي عالم ما وراء المعاني والمباني والملكوت وهو من أسرار الله

العلم اللدني ( الإلهي ) من ثمرة علم التصوف:-

يطلق على هذه العلوم والمعارف الربانية علم الحقيقة أو علم الحكمة أو علم الإشارة أو علم الفهم عن الله أو العلم اللدني أو العلم الباطني ونحو ذلك فكلها ألقاب ومصطلحات ولا ينبغي الاعتراض علي هذه المصطلحات عند إطلاقها دون تبصر ورؤية حتى يعلم المراد ويتضح المقصود منها لأن العبرة بالمصطلح عليه لا المصطلح نفسه.

وهذا العلم إنما هو فيوضات ربانية تفيض على الأرواح من حضرة القدس وليس فلسفة ولا فكر عقلاني ولا آراء شخصية، وأصحابه ليسوا فلاسفة يحترفون الفكر الفلسفي الناشئ عن البحث العقلي أو الميتافيزيقا بل هو أسرار ربانية وحقائق قلبية وأنوار إلهية ومعارف نورانية ومكاشفات باطنية تتجلى في أرواح وقلوب

ولهذا قال العارف بالله محي الدين ابن عربي:- ما من طائفة تحمل علما من العلوم مثل المنطق والنحو والفلسفة والطب وأهل الهندسة والحساب إلا ولهم اصطلاح لا يعلمه من ليس منهم وفيهم". وقال أيضا: يحرم المطالعة في كتب التصوف إلا لمن يعرف اصطلاحتتا

. وقال الإمام الشعراني: - ومن خاصية طريق القوم أن الصادق من المريدين إذا دخل طريقهم يعرف جميع ما اصطلحوا بالخاصية من أول قدم يضعه في طريقهم حتى كأنه الواضع لذلك الاصطلاح". وقال ابن خلدون :- أما الكلام في المجاهدات والمقامات وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها ومحاسبة النفس على التقصير في أسبابها فأمر لا يطعن فيه أحد لأن أذواقهم فيه صحيحة والتحقق بما هو عين السعادة".

                                 * * * * 

دلائل العلم الصوفي ( العلم أو الفتح الرباني ) :-

اولا الدلائل القرآنية:- يؤيد ذلك قوله تعالي في حق عبده الصالح الخضر عليه السلام منوها بمكانته ومنبها على ما اختصه به من علم رباني وفتح الهي وهو أعظم وأجل الكرامات المعنوية من العلم . قال تعالى ؛- "وعلمناه من لدنا علما"[الكهف: 65] قال القشيري ؛- العلم من عند الله وهو ما يتحصل بطريق الإلهام دون التكلف بالتّطَلُّب.. وقيل ما يعرَّف به الحق أولياءَه فيما فيه صلاح عباده وقال الخازن :- أي علم الباطن إلهاماً

وقوله تعالى:- أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السيل زبدًا رابيًا)  [الرعد: 17] قال ابن عباس هو ماء الحكمة والأودية هي القلب.

وفي قوله تعالى:- { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } الطلاق عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لو أني ذكرت لكم ما أعلم من تفسيرها لرجمتموني أو لقلتم إني كافر

فعلى هذا لو كان الأمر محصورا في المحسوسات ما ضرب الله لنا الأمثال للأمور المعنوية بالأمور الحسية كضربه مثلا للعلم النافع بالمطر النازل من السماء فكما أن المطر تعمر به الأودية فكذلك المدد الفائض من حضرة الغيب تسيل به أودية القلوب

ثانيا السنة النبوية الشريفة:؛ في البخاري :- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: حفظت عن رسول الله ﷺ جرابي علم أما أحدهما فبثثته لكم ( اي قلته لكم ) وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. قال الحافظ بن حجر في فتح الباري:؛ إن الأحاديث المكتومة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها.

وفي البخاري:- أن الخضر قال لموسى إن لي علما لا ينبغي أن تعلمه وإن لك علما لا ينبغي أن أعلمه" وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لو أني ذكرت لكم ما أعلم من تفسير قوله تعالى : "الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن" لرجمتموني أو لقلتم إني كافر

             * تتمة وبيان لنوعية العلم * 

فالعلم نوعان كسبي ووهبي-

العلم الكسبي:- وسيلته التعليم الإنساني ودلالة العلماء به على الأمر العام أمرا ونهيا أو قل وسيلة هذا العلم التعلم من خارج وهو التحصيل بالحواس

فالعلم الوهبي: وسيلته الكشف والإلهام وصقل مرآة القلب وصفاء النفس إذ من أشرقت بدايته أشرقت نهايته فهذه العلوم والمعارف منحة ربانية لمن اجتهد في تربية نفسه من سلوك ومجاهدات وتصفية قلبه وبعده عما يحجبه عن ربه من ذنوب ومعاصي علي قدر جهده

فلقد قال الرازي في تفسيره للآية ٢٩ من الانفال { يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } الفرقان :- إما أن يعتبر في أحوال القلوب وهي الأحوال الباطنة أو في الأحوال الظاهرة،. أما في أحوال القلوب فأمور: أحدها: أنه تعالى يخص المؤمنين بالهداية والمعرفة. وثانيها: أنه يخص قلوبهم وصدورهم بالانشراح كما قال تعالى :{ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مّن رَّبّهِ } [الزمر: 22]

وثالثها: أنه يزيل الغل والحقد والحسد عن قلوبهم ويزيل المكر والخداع عن صدورهم والسبب في حصول هذه الأمور أن القلب إذا صار مشرقاً بطاعة الله تعالى زالت عنه كل هذه الظلمات لأن معرفة الله نور، وهذه الأخلاق ظلمات، وإذا ظهر النور فلا بد من زوال الظلمة..الخ { تفسير الرازي لسورة الانفال بتصرف للتوضيح}

 * المراجع *

تفسير ابن كثير والطبري وفتح القدير للشوكاني ومفاتيح الغيب للرازي ولطائف الإشارات للقشيري وتفسير الخازن للآيات الواردة في الرسالة فتح الباري لابن حجر العسقلاني /احياء علوم الدين الغزالي /الرسالة القشيرية/ مقدمة ابن خلدون وعلم التصوف وإشراقاته الروحية للمرابط بن عبد الرحمن. جزاهم الله جميعا خير الجزاء دنيا وآخرة.

والله سبحانه وتعالى أعلي وأعلم وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين

                                   ***