الإشارة الأولي لحديث النبي ﷺ بَلْ عبدًا رَسُولًا
أحاديث المعاملات

روي عن حضرة النبيﷺ جلسَ جبريلُ إلى النبيِّ فَنظرَ إلى السَّماءِ ، فإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ ، فقال لهُ جبريلُ : هذا المَلَكُ ما نزلَ مُنْذُ خُلِقَ قبلَ هذه السَّاعَةِ ، فلمَّا نزلَ قال : يا محمدُ ! أَرْسَلَنِي إليكَ رَبُّكَ ؛ أَمَلَكًا جعلكَ أَمْ عبدًا رَسُولًا ؟ قال لهُ جبريلُ : تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يا محمدُ ! فقال رسولُ اللهِ : لا بَلْ عبدًا رَسُولًا . أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى

البيان :- [ أقرب الأبواب إلي الله تعالى هو باب العبودية والتذلل بحضرته ولحضرته ولذلك اختاره حضرة النبيﷺ كما أشار إليه سيدنا جبريل . لأن ابواب الطاعات والأعمال والعبادات غالبا ما يدخل فيها الاعتزاز بالنفس بالعلم والرياء وعدم الاخلاص والعجب بالعمل ورؤية النفس ونسيان فضل الله تعالى علي عبده بالتوفيق لكل صالح.

أما التذلل فهو نسيان ذاتك ونكران مقامك وحالك كأنك ريشة في مهب الريح لا إرادة لها ولا اختيار فتقع علي الماء النقي وغير النقي وعلي ارض خضراء وارض سبخة وتتقلب في قوة الريح من اقدار الله تعالى من نعمة ونقمة بلاء ورخاء عز وذل قهر واستسلام فلا إرادة ولا ذات ولا نفس ولا جاه ولا مكانة ولا علم فهذه هي حقيقة معني باب الذل لله عز وجل والله سبحانه وتعالى أعلي وأعلم وأحكم]

اقوال العارفين رضي الله عنهم في ذلك :-

قال علي الجمل : أنظر يا أخي هذه العبودية ما أشرفها وما أعظمها، التي اختارها المصطفى ﷺ عن كل ما خيره الله تبارك وتعالى فيه، فاختار أن يكون نبياً عبداً، يجوع يوماً ويشبع يوماً، ولو وجد شيئاً أفضل منها لاختاره في كل ما خيره فيه مولاه سبحانه . والنبي ﷺ هو إمام العارفين لم يجد شيئاً أفضل منها فاختارها لنفسه وأمر بها كافة الصحابة رضي عنهم والتابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، رضي الله عنهم . الله

واعلم أوصاف العبودية مثل الذل والتواضع والعجز والفقر والضعف والصمت وغض البصر وعدم السمع هذه بعض أوصاف العبودية ( فإن هذه الأوصاف منك سببا ) لاجتماع قلبك على ربك وبربك وهذا هو المطلوب . قال بعض الصالحين: والله ما وجدنا العز حقاً إلا في الذل. { اليواقيت الحسان للعارف بالله علي الجمل ص١٤٩ ،١٥٣}

وقال ابن عطاء الله السكندري في الحكم : مطلب العارفين من الله تعالى الصدق في العبودية و القيام بحقوق الربوبية. تحقق بأوصافك يمدك بوصفه و تحقق بالذل يمدك بعزه، و تحقق بعجزك يمدك بقدرته و تحقق بضعفك يمدك بحوله و قوته.

{ الحكم العطائية لابن عطاء الله السكندري}

وقال أبو الحسن الشاذلي : أتيت جميع أبواب الحق فوجدت الازدحام على الأبواب، حتى أتيت باب الذلة والافتقار فوجدته خالياً، فدخلت منه، والتفت، فإذا أنا قد دخلت وتركت الناس يزدحمون على الأبواب» . { درة الأسرار في أقوال وأفعال وأحوال سيدي أبو الحسن الشاذلي لابن الصباغ والطائف المنن لابن عطاء الله السكندري }

وقال أبو زيد البسطامي: ناداني الحق فقال لي : يا أبا يزيد، قلت نعم يا رب، قال خزائنا مملوءة بالخدمة فإن أردتنا ( أي أردت الوصول لمعرفتنا) عليك بالذلة { المختار من مناقب الأخيار ترجمة ابو يزيد}

                               * * * *

من علامات ودلائل الذل لله عز وجل:- هذه الدلائل والعلامات إذا كانت فيك فاعلم انك واقف بباب المذلة لله عز وجل وأن ذل العبودية أصبح حالك مع ربك مثل النفس الذي تتنفسه ::

(١) انكار الذات بالتواضع من علامة الذل لله :-

[[ قال تميم الداري:- غاية التواضع أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدا إلا رأيته خيرا منك

وقال يحيى بن معاذ داعيا ربه بالتذلل إلهي إن غفرت فخير راحم، وإن عذبت فغير ظالم؛ إلهي، ارحمني لقدرتك علي ولحاجتي إليك؛ يامن أعطانا خير مافي خزائنه : الإيمان به قبل السؤال، لاتمنعنا عفوك مع السؤال ؛ يامن يغضب على من لابسأله، لا تمنع من قد سألك .]] {حلية الأولياء/صفة الصفوة }

وقال أحمد اليماني:- لا تذكر نفسك في وسط الخلق ولا تعبأ بها ولا بحظها ، ولا تنسب لها شيئا من الأفعال ولا من الإرادات ولا من التأثير . هذه بعض صفات الفقير ( لربه المنكسر والمتذللين ) مع مولاهم ، ولا تري لنفسك قدر في وسط الخلق وحقوق الخلق كلهم عليك ولا ترى لنفسك على الخلق حقا ولا تنكر على الخلق شيئا من أحوالهم . { اليواقيت الحسان لعلي الجمل }

(٢) عدم الاعجاب بعملك وعلمك :-

قال أبو عثمان الحيرائي:- إذا اعجبت بنفسك ( من علم أو عمل أو عبادة ) فقد حجبت عن ربك واحتقار الناس مرض عظيم ليس له دواء ( إلا إذا رحمك ربك ونزع منك الكبر والبسك رداء التواضع ولا حرج علي فضل الله تعالى) { سير السلف الصالحين للاصبهاني أبو عثمان }

وقال أبو بكر الواسطى:- رؤية الله تعالى لك في مذلة الإفلاس والعجز والانكسار افضل من أن يراك في اعجاب مزهوا بنفسك بالعز والمعاملة والعبادة { تذكرة الأولياء للعطار ترجمة الإمام أبو بكر الواسطى بتصرف يسير جدا. }

(٣) قمة الذل لله هي الذل لعباد الله مادمت تري الله فيهم أي أن الفعل والسكون بيد الله لا بيد العبد

[[ قال علي الجمل: الذل شرط في حق من أراد الخصوصية سواء كانت خصوصية الظاهر أو خصوصية الباطن لأن الخصوصية عز ولا شك أن مفتاح العز هو الذل فمن أراد أن يكتسب عزا فوق عز العامة فليكتسب ذلا تحت ذل العامة

فإذا أردت أن تكون عبدا لله حقاً فكن عبداً لعبيد الله حقاً تجد نفسك عبد الله حقاً وإذا أردت أن تكون متواضعاً الله فكن متواضعاً لعباد الله فذلك التواضع لله وإذا أردت أن تعظم الله فعظم عباد الله فذلك هو تعظيمك لله ، هذا لعباد الله خصوصاً وعموماً . وإذا تكبرت على عباد الله فأنت متكبر على الله وإذا تجبرت على عباد الله فأنت متجبر على الله وإذا غضبت على عباد الله فأنت غاضب على الله ( والغضب صفة الرب وليس العبد الذليل) وإذا حقرت جانب عباد الله فأنت محقر لجانب الله وإذا تعززت على عباد الله فقد تعززت على الله .

أي أن: شغلك مع الله هو شغلك مع عباد الله من غير زيادة ولا نقصان لأنه لا موجود في الحقيقة إلا الله ولا في الوجود إلا الله ( فالذل والأدب في الحقيقة مع الله تعالى وليس مع العباد ) ][ { اليواقيت الحسان لعلي الجمل }

(٤) علامة الذل لله في معاملتك لخلق الله

[[قال العارف بالله بكر بن عبد الله المزني :- إذا قابلت أحدا من الناس فانظر : إن كان أكبر منك فقل : سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني ، وإن كان أصغر منك فقل : سبقت هذا بالمعاصي والذنوب واستوجبت العقوبة فهو خير مني وإن رأيت إخوانك من المسلمين يكرمونك ويصلونك ويعظمونك فقل : هذا فضل أخذوا به فإن رأيت منهم جفاء فقل : هذا ذنب أحدثته -]] { حلية الأولياء لابي نعيم وسير الصالحين للاصبهاني ترجمة الإمام بكر المزني }

[[ وروي عن حضرة النبيﷺ أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام : إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكافر تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه ، أن أظله تحت عرشي ، وأسكنه حضيرة قدسيء وأدنيه من جواري } ]] ( بستان الفقراء ونزهة القراء للكتامي الباب رقم ٥٢ )

والله سبحانه وتعالى أعلي وأعلم وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين