روي عن حضرة النبيﷺ
أنَّ النبي ﷺ مَرَّ بقوم يُلَقِّحُونَ فقال لو لم تفعلوا لصلح قال: فخرج شِيصًا ( اي بلا تمر )
فَمَرَّ بهم فقال ما لِنَخلكُم قالوا قلت كذا وكذا قال أنتم أعلم بأمر دنياكم
اخرجه مسلم والبخاري بنحوه .
* اقوال العارفين في ذلك *
- قال العارف بالله عبد القادر الجزائري:-
من فهم من الحديث أن حضرة النبيﷺ كان جاهلا بأن النخل لا يصلح إلا باالتأبير ( التلقيح بيد الإنسان ) فقد أبعد وأساء الأدب مع مقام النبوة عامة ومقام النبي ﷺ خاصة
فإن الرسل لا يصلون إلى هذا الحد من الجهل بأمور الدنيا، كيف ؟ وسيدنا محمد ﷺ نشأ في بلاد العرب وهي أرض النخيل ومحل علم زراعته وتثميره فهذا محال
فعلم القلم واللوح بعض علومه وأمور الدنيا وأسبابها ومسبباتها قد تضمها القلم واللوح ومن أنواع العلم علم أن كل سب متضمن لمسببه
ولكنه علم ما كانت عليه العرب من الاعتماد على الأسباب وكان المسلمون حديثي عهد بجاهلية وعبادة الأصنام،
فأراد أن يعرفهم أن الأسباب لا تأثير لها بذاتها وأن الفاعل هو الله سواء كانت الأسباب موجودة أو عدمت فقال لهم لو لم تفعلوا لكان خيرًا
فليس المراد من قول النبيﷺ أنه يريد منهم ترك الأسباب العادية التي أجراها الحق عز وجل عادته بها في مخلوقاته .
لأن الرسل عليهم الصلاة السلام إنما يأمرون برفع حكم الأسباب لا برفع عينها بل يأمرون بإثبات عينها من حيث أن الأسباب وضعها وأثبتها الحكيم العليم بما يجريه ويثبته المولي عز وجل.
فمن طلب رفع العوائد الجارية والأسباب العادية فقد أساء الأدب وجهل وكيف يدعي المعرفة بالله والوصلة به والصحبة له من يطلب رفع العوائد
والحق سبحانه وتعالى هو الذي وضعها ومن شرط الصحبة الموافقة فمن طلب رفع الأسباب فهو منازع وليس بمواصل ولا صاحب بل هو إلى العناد أقرب .
فالذي يثبت العادات والأسباب على وجه لا يناقض التوحيد هو العارف بربه لأنه يشهد الحق سبحانه وتعالى فيها لأن كل شيء من الأشياء هو تجل من تجلياته سبحانه وتعالى .
وإنما المراد أن النبيﷺ أراد أن ينبههم على باطن الحقيقة ونفس الأمر وهو أن هذه الأسباب العادية والصورة المشهودة لا تأثير لها في شيء مما جرت به العادة أنه يوجد عندها
وإنما الحق عز وجل هو الفاعل لذلك فهو المؤثر بوجهه الخاص الذي له - عز وجل - في كل مخلوق لأن للمولي عز وجل في كل مخلوق حتى الذرة وجه خاص لا يشاركه غيره فيه .
فبالله سبحانه وتعالى يكون التأثير وإنما ستر الله فعله بصور مخلوقاته رحمة بخلقه وتقديسا لجنابه الأعلي
فمراد النبي ﷺ بقوله لو لم تفعلوا لصلحت بأن يكونوا مشاهدين للحق عز وجل بأنه الفاعل الحقيقي عند الأخذ بالأسباب ( في كل شيء)
ومعتمدين علي الله عز وجل لا على الأسباب وليس مراده ترك السبب وانما لابد من الأسباب وجودا والغيبة عنها شهودا .
أما قول النبي ﷺ لما طلعت النخل شيصا « أنتم أعرف بدنياكم » فهو کلام خرج منه مخرج الإعراض عنهم حيث أنهم لم يفهموا مراده بقوله لو لم تفعلوا لصلحت »
وحملوا كلامه على ترك التأبير ( التلقيح للنخيل ) وليس هو المراد وإنما المراد أنه سبحانه وتعالى يفعل الأشياء عند الأسباب وعند عدم الأسباب وهو التوحيد الحقيقي
ولا يفهم من قوله اﷺ « أنتم أعرف بدنياكم »
أن النبي ﷺ جاهل بأمور الدنيا والدين فهذا محال
لأن المولي سبحانه وتعالى ما أرسلهم إلا ليعلموا الناس مصالح معاشهم ومعادهم ويرشدوهم إلى ما جهلوه من ذلك .
فأظهر لهم النبي ﷺ التقرير على عادتهم حيث أنهم لم يفهموا مراد النبي ﷺ وما فهموا إلا ترك السبب جملة واحدة وليس هذا هو المراد .
وقول النبيﷺ (إنما أنا بشر مثلكم......الحديث ) فإنما قال النبي ﷺ هذا لهم حيث فاتهم فهم مراده منهم.
وقد تكلم إمام العارفين محيي الدين ابن عربي والعارف بالله عبد العزيز الدباغ بغير ذلك والكل صواب إن شاء الله فإن الكل من عند الله .
والله سبحانه وتعالى أعلي وأعلم وأحكم. وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين.
* المراجع *
- صحيح مسلم
- المواقف الروحية للجزائري الموقف رقم ٤٤ و ٢٧٨ بتصرف يسير
- وانظر الابريز في كلام العارف بالله عبد العزيز الدباغ لتلميذه احمد بن المبارك
- وانظر الفتوحات المكية لمحي الدين ابن العربي .