قطره من بحر حكمة العارفين ،:-
وصايا :-
* طالب طريق الله عز وجل:-
كل من يطلب طريق الحق عز وجل ويقف على حق اليقين ويحاول أن يعرف قدر نفسه وبماذا أكرمه الله تعالى فليجاهد ويسعى في طلب المعرفة اليقينية والعلوم اللدنية .
يقول سيدنا أبو المواهب الشاذلي : الإنسان غرته الدنيا وأعمته عن حقيقة وجوده فعاش إنسانا في الصورة الظاهرة وحيوانا في الحقيقة ولو عرف الإنسان ما يراد منه ، لما أضاع نفساً من أنفاسه في الغفلة والاشتغال بما لا يعنيه
* التصوف
ورد في تعريف التصوف مئات التعاريف وهي في الحقيقة إذا جمعتها معاً كانت تعريفاً للتصوف فكل عارف بالله عرف التصوف بما غلبه عليه حاله أو مقامه
ويمكن تلخيص ذلك في القول بأن التصوف هو اتباع الكتاب والسنة ، حبا وشوقاً وتولها بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم
وليس لأجل غرض أيا كان هذا الغرض فالغرض في التصوف مرض فلابد أن يؤدى العبد آداب العبودية وخدمة الربوبية ، ويرى أنه قائم بالله تعالى لا بنفسه فإنه لا حول ولا قوه الا بالله العلي العظيم
فإذا رأى أنه أدى العبادات بنفسه معتمداً علي حوله وقوته سقط على أم الرأس وسلوك الطريق صعب وشاق يقول أهل الله : الله عظيم ، وطريق الله عظيم ؛ فتعبه عظيم ، وراحته عظيمة
فالعبودية المحضة : هي مطلب العارفين وهو أعلى المقامات وفيه الراحة الكاملة وهو أن تعبد الله لله بالله لا بنفسك ولا تطلب جزاء ولا عوضاً ولا كشفاً ولا مقاماً ولا حالاً
والطلب الوحيد الذي لا يناقض هذا المقام هو طلب العلم بالله تعالى ( وقل رب زدني علمًا ) تطلب ذلك على سبيل العبودية والذل لله عز وجل
والبداية والنهاية في اتباع الكتاب والسنة والاستمرار على ذكر الله بعد انجاز العمل الدنيوى الذي يتكسب السالك منه لقمة العيش بكد يده وتفريغ القلب من جميع الخواطر
وعدم الوقوف مع أي شئ من الظلمات كانت أو الأنوار مع اتباع شيخ عارف كامل متمكن ، مأذون بالتسليك ، وهو أهم أركان الطريق ، وبدونه لا معرفة ولا وصول
وتعبد السالك تعظيماً لله تعالى لا يريد وصولاً ولا قرباً ولا راحة ولا فتحا ، بل يعبد الله لله بالله جل جلاله، فإذا تراءى له شئ في المنام أو اليقظة لا يركن إليه ولا ينتظر وقوعه فذلك قاطع كبير في الطريق
يقول سيدنا رسلان الدمشقى : من عبدنا به له طردناه ، ومن عبدنا به لنا أعميناه ، ومن عبدنا بنا لنا بصرناه ، وهذه الحكمة اصل ولب السلوك الي الله تعالى
ومن أمور المريد الذل والمسكنة على باب الله تعالى والذكر هو العمدة في الطريق
فالذكر منشور الولاية ويتدرج المريد في السلوك شيئًا فشيئًا ، ويتدراكه الله بالجذب من وقت لآخر ، ولا بد من الجذبة الإلهية فالمجاهدة وحدها لا تكفى
وعليك أن تصبر على الابتلاء من مرض وفقر وأذى الخلق لك من قريب وبعيد فلا بد للمريد من ذلك حتى يصطفيه الله تعالى إن كان من أهل العناية ، والمدار كله على السابقة الأولي والعناية الربانية
والوصول إلى الله والدخول عليه يكون بأوصاف العبودية من ذل وفقر وضعف وجهل والإحساس بذلك ، فتلك صفات العبد
وليس بأوصاف الربوبية ( كما يظن من لا علم له بالحقائق ) من عزة بالعبادة وقدرة وإرادة وإن كانت هذه الصفات الازمة للعبد السالك إلي الله تعالى ولكن عليك أن تراها عارية عندك من الله عز وجل
وأجمل صفات المريد الذل والمسكنة ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين )
ومن استشعر العز والغنى فليس من أصحاب الصدقات ونعنى بالصدقات النفحات الإلهية والمعارف اللدنية التي لا يدخلها شك أو ريب
وإذا سلك المريد على يد شيخ كامل ولم يحدث له أدنى ترقى فلا يتزلزل بل يصير فالفتح أمر لا بد منه سواء في الدنيا أو الآخرة
ولا تقل : إن الفتح يحدث للجميع بعد الموت نحن لا نقصد كشف البصيرة ولكن نقصد معرفة العلوم الإلهية التي يحتاجها العبد في الآخرة فالجاهل بهذه العلوم في الدنيا جاهل بها في الآخرة .
وإذا قادتك المقادير إلى شيخ غير مأذون بالإرشاد من أستاذه أو من الله ورسوله فلتعتبر ذلك محنة وابتلاء وبصدقك وإخلاص نيتك يعرفك الله عن قريب بمن يأخذ بيدك
فإذا تأكد له أن الشيخ من المدعين الكاذبين فعليه بتركه وما أكثر المتمشيخين الجهلة بالتسليك ، وبألف باء الطريق في هذا الزمان بل في كل زمان
ولا يغتر المريد بما يظهر على أيدى الشيوخ من خوارق العادات بأن يخبره بأمر غيبي أو يشفيه من مرض حسى أو نفسي أو يطرد عنه عارض من الجن أو غير ذلك
فهذه الخوارق تحدث لأصحاب الرياضات النفسية في كل ملة ودين حتى الكفار كما صرح بذلك أغلب العارفين منهم الأمير عبد القادر في كتابه المواقف الروحية
وأكبر الكرامة هي الاستقامة واتباع الكتاب والسنة ، والتحلى بمكارم الاخلاق ، ووظيفة الشيخ تعريف المريد بالله ، وتقويمه على الكتاب والسنة ، فإذا لم يحصل المريد ذلك فلعدم صدقه أو عدم تمكن الشيخ المربي
ويقول العارف بالله الإمام محمد زكي الدين إبراهيم : ليس التصوف رقص الراقصين ولا هو الذكر بالألفاظ الساذجة ولا مواكب رايات ملونة ولا طبل وزمر ولا تشنيج فيها لما يغضب الديان وكل شيء سوى هذا فمجوج
بل هو الكتاب وما جاء النبي به إن التصوف سر الله يمنحه لتحقيق الخلافة
أما ما يختص بكتب التصوف أصحاب المقامات العالية فقراءتها لا بد أن تكون تحت إشراف الشيخ المربى أو أخ صالح سالك وسادتنا العارفين لم يضعوا هذه الكتب من باب البحث والتفكير والتأليف
بل أغلب كلامهم فتوحات إلهية أثبتوها بإذن إلهى لإرشاد عباد الله وهي رسائل لأصحابهم ومريديهم ويكفى أن تعرف أن أضخم وأعظم كتاب في التصوف وهو الفتوحات المكية لابن عربي عبارة عن رسالة لأصحابه وتلاميذه
وكتب الصوفية ليست للتثقيف وجمع المعارف دون ذوق وتحقيق كما هو شأن المؤلفات الأخرى بل هي علاج للمريد تقومه إذا فقد الطبيب ( العارف بالله )
ولا يمكن بأي حال الاكتفاء بها في السلوك بل لابد من الشيخ وكل سالك لم يصل إلى مقام في معراجه الروحي عليه أن يترك قراءته فإذا قرأه فمن باب التشويق ورفع الهمة ومعرفة النقص في حاله
وإلا فخطر القراءة في هذا المقام الذي لم يبلغ السالك الوصول إليه محتوم وقوعه ، لأن للنفس والشيطان تلبيسات وأوهام ، فيكتسب السالك من القراءة حال معنوى خيالي وليس حقيقي من لذة الاطلاع
فيجرفك الهوى إلى القاع وتظن انك من أهل المقام وينتقل إلى غيره .. وهكذا وأنت واقف لم تبرح مقام النفس اللوامة وربما الأمارة .
وأغلب الإرشادات والعلوم الخاصة بالسلوك تؤخذ مشافهة من صدور الأولياء والاجتماع بهم ، لأنهم يعرفون علة المريد ولو طالع المريد كل كتب التصوف ، لم تزل عليه بل ربما تعظم وتتضخم وتهلكه دون أن يدرى
ومن هنا حذر سادتنا من قراءة بعض كتب التصوف التي ترمي إلى مقامات ومعارف بعيدة عن إدراك المريد فيضل بها أكثر من أن يهتدى
مثل تحذيرهم من قراءة الفتوحات المكية لابن عربی ومؤلفات ابن سبعين ، والإنسان الكامل للجيلي وأشعار ابن الفارض ، ومواقف النفرى ومخاطباته ، وأمثال هذه الكتب التي تفيض بالفتح الإلهى والعلم اللدنى والحقائق والإشارات
وهذه الكتب كما ذكرنا تفيد السالك الذي تخلص من شهوات نفسه وأماتها وأتقن مقام الذل والانكسار والتواضع ولاحت له بعض بوارق الفتح وإن قلت
أما كتب السلوك التي تحث على المجاهدة وتطهير النفس ومعرفة عيوبها أمثال : الإحياء للغزالي ، والرسالة للقشيرى ، والوصايا لابن عربي وغير ذلك فلا ضرر في مطالعتها والعمل بما فيها حتى يصل المريد إلى مقام الإخلاص
ويتبع القرآن والسنة بنية مستقيمة وقلب سليم ، كما كان حال الصحابة من كونهم على الفطرة وصدق الحال ، فلم يحتاجوا إلى هذه الكتب ولذلك لم توضع في زمانهم .
فالغرض من مؤلفات سادتنا العارفين أن يعمل المريد ويطبق ما فيها ليترقى في سلوكه حتى يصل إلى مقام ينال فيه علوماً ومعارف لا تسطر في كتاب ولا تحمل معانيها العبارة.
ولا بد لمن يكتب عن الصوفية وأحوالهم ومؤلفيهم أن يكون له صلة إن تعسر عليه السلوك فليكن له نصيب من التبرك بمجالستهم والاستناس بأنفاسهم ومددهم
وما حدث من تحريف المقاصد للعارفين وسوء فهم التصوف كان نتيجة خوض كل من كان بعيد عن أهله فيه
وأخذه من الكتب أمثال الأدب والفلاسفة والمستشرقين وأساتذة الجامعات، وكل الذين ظنوا أن التصوف لون من ألوان المعرفة والثقافة والتراث
وتلمس ذلك بسهولة إن أردت السلوك، وقرأت صفحات معدودة لأحد العارفين في موضوع صوفي، وليكن المحبة الإلهية مثلا
سوف تشعر بحاله من الصفاء يسرى في نفسك يدفعك نحو حب الله تعالى
أما إذا قرأت كتابا ضخما في مئات الصفحات لاستاذ جامعي أو مستشرق أو فيلسوف في نفس الموضوع من قراءتك تشعر بالتشغيب والتشتيت والحيرة والبعد عن الله من كلام غيره.
والخلاصة التي تنتهي إليها ، أن كل من أراد أن يعرف سيرة أهل الله تعالى عليه أن يسلك طريق التصوف بقدر استطاعته ويلازم أهل الله ويجالسهم ويسألهم
وإلا فسيجد كلامهم غريباً وأحوالهم أكثر غرابة ويؤول به الأمر إلى سوء الظن بهم ويعتبر كلامهم خرافات وأساطير ومبالغات شططا وجنوناً
قال سيدنا على كرم الله وجهه : لا تعرف الحق بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله .
فإن أردت أن تتعلم القتال فعلى يد محارب في ميدان المعركة وليس على يد مؤرخ للحروب، وإن أردت أن تتعلم الطب فعلى يد أستاذ فيه وليس على يد أديب يكتب عن الأطباء وهذه حقائق لا تحتاج إلى أدلة وبراهين والله اعلم
حقائق التصوف