روي عن حضرة النبيﷺ الرَّحِمُ معلَّقةٌ بالعرشِ تقولُ مَن وَصَلني وصلَه اللهُ ومَن قطعني قطعه اللهُ
{ أخرجه مسلم عن السيدة رضي الله عنها } . * الحكمة *
من مَلَكُ أخلاقه عَبَدَ خلاقه
ومن ملكته أخلاقه احتجب عن خلاقه
ومن ملكته عاداته فسدت عليه عباداته .
* البيان *
صلة الرحم أفعال وأقوال وسلوك فإما أن تتحول صورة الفعل الي هيئة تشبه الملائكة أو أن الرحم أصلها هو ذلك
ولا زال لها وجود حسي فتناجي مولاها وتتعلق بعرشه مستغيثة بالحق عز وجل لمن أهمل حقها وتدعوا لمن وفي حقها
وهذه خطورة ليست سهلة لأن لأفعال والاقوال تتحول إلي كائن له لسان يدعوا لك أو عليك سواء كان الرحم أو الكلمة الطيبة أو الخبيثة أو الصدقة ...الخ
فكل فعل معنوي يتحول بعد موتك ويوم القيامة الي مخلوق ناتج من فعلك وقولك كما أن مانع الزكاة يتحول فعله الي صورة ثعبان أقرع يلدغ صاحبه في قبره
ويأتي اليك رجل بعد موتك صورته طيبة فيقول لك انا عملك الطيب أو صورة خبيثة ويقول انا عملك السيئ
فلابد من الدقة في القول والعمل فأنت من ترسل الي الملأ الاعلي والي قبرك ويوم القيامة من ينتظرك بخير أو شر يدافع عنك أو يشكو ربك منك
ولعل هذا البيان السابق والله اعلم هو المشار إليه في الحديث القدسي عن حضرة النبيﷺ عن رب العزة
قال اللهُ تعالَى :- يا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُه مُحرَّمًا فلا تَظالموا. إلي أن قال الحق جلا وعلا في اخر الحديث:-
إنَّما هي أعمالُكم تُرَدُّ إليكم فمن وجد خيرًا فليحمَدْني ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومَنَّ إلَّا نفسَه
فإما أن يرد إليك العمل بالثواب أو العقاب أو يرد إليك في صورة حسية مثل الرحم والزكاة والعمل الطيب كما ذكر سابقا فيدعوا لك أو عليك يأخذ بيدك أو يكون حجة عليك .
* اقوال العارفين في ذلك *
.
- قال العارف بالله أبو بكر المضري :-
معني الحديث :- أي أن العبد إذا عرف لا إله إلا الله وتحقق بلا إله إلا الله واتصف بلا إله إلا الله
كان كل من قالها من المسلمين أصبحوا رحم له لابد من وصلها ولا يقطعها
- وقال الإمام جعفر الصادق:-
مودة يوم صلة ومودة شهر قرابة ومودة سنة رحم ثابتة من قطعها قطعه الله تعالى
* الحكم الفقهي في صلة الرحم *
- اولا الرحم العامة والخاصة :-
قال الإمام أبو حنيفة :-
المسلم مع أخيه في بلد مسلمة رحم والمسلم مع أخيه المسلم في بلاد غير مسلمة رحم فلا يشترط النسب والتوارث ( أي كل من قال لا إله إلا الله فهو رحم حتي وان كان في بلد غير بلدك )
- وقال الإمام القرطبي : الرحم على وجهين:-
الرحم العامة ( رحم الدين )؛:-
وتجب بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم والنصيحة وترك مضارهم، والعدل بينهم والنّصفة في معاملتهم والقيام بحقوقهم الواجبة
كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم، والصلاة عليهم ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم.
ورحم خاصة ( رحم القرابة ) :-
وهي الرحم من طرفي الرجل أبيه وأمه فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة كالنفقة وتفقد أحوالهم وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضرورتهم
وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة حتى إذا تزاحمت الحقوق يبدأ بالأقرب فالأقرب
- ثانياً صلة الرحم المؤذية :-
قال ابن عبد البر :-
يجوز الهجر لمن كانت وصلته تجلب نقصاً في دينك أو ضرر في نفسك أو دنياك فكم من هجر جميل خير من مخالطة مؤذية
قال رسول الله ﷺ :- لا ضرر ولا ضرار
وأماصلة الرحم المؤمنة المؤذية دنيوياً فغير واجبة على مذهب بعض أهل العلم طبعاً باستثناء الوالدين
لما روي عن حضرة النبيﷺ
أَنَّ رجلا قال يا رسول اللَّه إنَّ لي قرابة أَصِلُهُمْ ويقطعون وَأُحْسِنُ إليهم وَيسيئُونَ إلي وَأَحْلُمُ عنهم ويجهلون عَلَيَّ
فقال النبي ﷺ فإن كَانَ هذا كَمَا تقول لكأنما تُسِفِّهُمُ الْمَلُّ ولا يزال معك مِن اللَّه ظهير
( رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه)
( المل :-. هو الرماد الحار )
فالحديث يدل علي استحباب صلة الرحم المؤذية لا وجوب ذلك لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح
وأما من يتورع ويتحامل علي نفسه فهو في درجة عالية لتحمله الأذي والصبر وهي درجة الإحسان العالية
وهذه الدرجة منحة من الله تعالى لمن شاء من عباده لأن كل الناس لا تتحمل الأذي مقابل الإحسان والأجر علي قدر تحمل المشقة والتعب ولا يتساوي الناس في ذلك . ولذلك لما أمر المولي عز وجل بالصلة فقال تعالى
{ وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ...الآية)
قال المولي عز وجل بعدها :-
{ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ..الآية }
فأمر بالصبر والتحمل ثم أمر بالاحسان مقابل السيئة فقال عز وجل. :. ( وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ }
ولعل المولي عز وجل ذكر الصلاة بعد الأمر بالصلة لأنها تعينك علي الخير والأمر به وفعله والنفقة بعدها تعين علي رفع الشحناء والبغض فافهم وتأمل والله اعلم
- ثالثاً الرحم غير المسلمة :-
الكلمة الطيبة والبسمة والبشاشة لغير المسلم جائزة بل واجبة لانه اخوك من أبيك سيدنا آدم وأمك حواء هذا عامة وليس خاصة فقط لأنها رحم مقطوعة وللاسف الي وقتنا هذا .
فلا يشترط اسلام أو غيره قرابة أو غيره لأنها سمة المسلم المسالم الذي لا يخرج منه إلا السلامة ووجوده سلام ورحمة لكل عباد الله تعالى
- قال إبراهيم النخعي:-
لا بأس أَنْ تكون بشوش الوجه إلى الكافر إذا كانت لَكَ إليه حاجة أَوْ بينكما معروف. .
فالمخالطة من تجارة أو عمل لسبب معتبر كتأليفه للدخول في الإسلام أو لكونه ذا قرابة ورحم أمر جائز ولا حرج فيه ولكن يحذر من متابعته أو إقراره على شيء من باطله
لكن إذا كانت الرحم غير مسلمة فلها الحكم السابق إذا كانت معتدلة في تصرفاتها.
وجاء في السنة الشريفة:-
قالت السيدة أسماءَ رضي اللهُ عنها أتتني أمِّي راغبة ( اي تريد منها شئ مال أو طعام أو غيره ) في عَهدِ رَسولِ الله ﷺ فسألت النبيَّ ﷺ أصِلُها قال النبي ﷺ نعم .
{ فلقد اذن لأسماءَ أن تصل أمَّها مع انها مشركة }
وجاء لحضرة النبي ﷺ هدايا من حلل ( عباءات) فأعطى لسيدنا عُمَرَ بن الخطاب واحدة فلبسها سيدنا عمر فرآه النبي ﷺ وكأنه أنكر لبسها عليه
فقال سيدنا عُمَرُ للنبي ﷺ كَسَوْتَنيها يا رسول اللَّه ﷺ فقال رسول الله ﷺ إنِّي لم أكْسُكَها لتلبسها فكساها سيدنا عمر لأخ له كان مُشرِكًا بمكَّةَ
أما إذا كانت الرحم الغير مسلمة فاجرة عاصية فلا تختلط ولا تصل الرحم إلا ضرورة فلا يكون في وقت يُباشرون فيه المعصية..
والله سبحانه وتعالى أعلي وأعلم وأحكم. وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد. وعلى اله وصحبه اجمعين.
* المراجع *
- صحيح البخاري وشرح مسلم للنووي
- التمهيد لما في الموطأ من الاسانيد لابن عبد البر
- تفسير القرطبي سورة ( سيدنا ) محمد أية ٢٢
- الفقه الحنفي وانظر الفقه على المذاهب الأربعة.
- الكواكب الدرية لعبد الرؤوف المناوي ترجمة أبو بكر
المضري وجعفر الصادق وإبراهيم النخعي .